] فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا[ أي: أبعدهما عنها ،من الزلل بمعنى الخطيئة التي تبعد الإنسان عن الثبات في موقعه ،وذلك من خلال وسوسته وإغوائه وخداعه ،وهذا ما قد نستوحيه من قوله تعالى:] فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ[ من الجنّة الخالدة والعيش الرغيد والراحة والهدوء والطمأنينة والفرح الروحي المنفتح على لذّات الجنّة وجمالاتها .
آدم وإبليس في الأرض:
] وَقُلْنَا اهْبِطُواْ[ إلى الأرض أنتما وإبليس لعصيانكم اللّه وفشلكم في الاستقامة على خطّ أوامره ونواهيه ،] بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ[ بفعل الحرب المفتوحة بينكما وذريتكما وبينه وجنوده ،لأنه يستهدف إبعادكم عن رحمة اللّه وعن جنته ،بينما تعملون على التمرّد عليه والخروج من سلطته والسعي إلى دخول الجنّة والبُعد عن النّار .] وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ[ أي مقام ثابت لأنَّ اللّه جعلها قراراً ،] وَمَتَاعٌ[ تستمتعون فيه في حاجاتكم الوجودية العامة والخاصة ،] إِلَى حِينٍ[ إلى الأجل الذي جعله اللّه لكم في مدّة العمر التي حدّدها لكم في هذه الدنيا .
وهكذا عرف آدم ومعه زوجته معنى الشيطان في وسوسته ،وقسوة التجربة في نتائجها ،وأدرك الهول الكبير الذي يواجهه في البُعد عن رحمة اللّه ،وفي الخروج من مواقع القرب إليه ،ومقامات الروح في رحابه .
وبدأت العملية من موقع حقده وحسده وعداوته ،فمشى إليهما في صورة الملاك الناصح ليقول لهما أنَّ هذا النهي عن الأكل من الشجرة لا يلزمهما ،بل سيحصلان من خلال تجاوزه على لذة الخلود والانطلاق في أجواء الملائكة ،كما جاء في قوله تعالى:] إِلاَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ[ [ الأعراف:20] ،وبدأت الكلمات الجديدة المغلّفة بغلاف من البراءة والنصح تأخذ مفعولها في نفسيهما ،كما جاء في قوله تعالى:] وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ[ [ الأعراف:21] ،فهما لم يتصورا أنَّ هناك غشّاً في النوايا ،وخداعاً في الأساليب ،بل كلّ ما عندهما الصفاء والنقاء والنظر إلى الحياة من وجه واحد ،هو الحقيقة بعينها ،فاستسلما للكلمات من دون أن يشعرا بأنَّ ذلك يمثّل تمرّداً على اللّه وعصياناً لإرادته ،فقد كان لأساليب إبليس ،لعنه اللّه ،فعل السحر في نفسيهما ،تماماً كما هي الأحلام عندما تغرق الإنسان في أجواء روحية لذيذة فتبعده عن واقعه وعن حياته .
وسقطا في أول تجربة ،ونجح إبليس في التحدّي الأول للإنسان ،فأهبطه من عليائه وأسقطه من مكانته ،لئلا يبقى الساقط الوحيد في عملية التمرّد على اللّه .فها هو يشعر بالزهو والرضى ،لأنه استطاع أن يهبط بقيمة هذا المخلوق الذي كرّمه اللّه عليه ،إلى درك الخطيئة ،ليصبح منبوذاً من اللّه .وجاء الأمر من اللّه إليهم ؛آدم وحواء وإبليس ،أن يهبطوا جميعاً ،وأن يعيشوا في الأرض إلى المدى الذي يريد لهم أن يعيشوا فيه ،ويتمتعوا في ما هيأه اللّه لهم من صنوف المتع واللذات ،وأن يواجهوا الموقف بين الفريقينفريق الإنسان وفريق الشيطانبروح العداوة التي يشعر معها الإنسان بأنَّ الشيطان لا يخلص له ولا يصفو ،لأنَّ مهمته التي نذر نفسه لها هي إغواء الإنسان ،وإضلاله ،وإبعاده عن رحمة اللّه ،ولذا فإنَّ الحياة الجديدة تعتبر بداية الصراع .
أمّا حصيلتنا من هذه الآياتفي الخطّ العملي لحياتنافهي أن نستفيد من تركيز اللّه على عداوة إبليس لآدم ،لإثارة عمق الإحساس بالعداوة في حياتنا إزاء إبليس وجنوده ،ما يجعلنا نعيش الحذر في الفكرة ،وفي الكلمة ،وفي الخطوات العملية ،وذلك بأن ننفذ إلى أعماق ذلك كلّه في شهواتنا وخلفياتها الذاتية ،لأنَّ الدوافع الشريرة قد تختبىء وراء ستار كثيف من الانطباعات السطحية الخفيفة الكامنة في زوايا النفس ،وقد تتلوّن ببعض الألوان المحببة إلى النفس في ما تقبله أو ترفضه .ثُمَّ نلتفت إلى ما حولنا من الأشياء التي تثيرنا نحو التحرّك ،وإلى من حولنا من النّاس الذين نختلف معهم في جوانب العقيدة والحياة عندما نلتقي بهم في بعض مراحل الطريق ،أو نتفق معهم في بعض خطط العمل ،لندرس كلّ علاقة فكرية أو عملية ،بروح الحذر الذكي الذي لا يتجمّد ليشلَّ في الإنسان جانب الحركة في جوّ الشك ،بل يتحرّك ليبحث عن كلّ السلبيات الكامنة في خلفيات الأشياء والنفوس ،فقد تكون هناك بعض الأمور السيئة الكامنة خلف واجهات الإغراء .
إنَّ علينا أن نضع أمامنا حقيقة العداوة مع الأعداء ،فلا نستسلم لحالات الاسترخاء الطيِّب في نفوسنا للعلاقات الطارئة التي تعيش في جوٍّ حميم ،لأنَّ العدو الذي يعيش الإحساس بالفواصل الفكرية والروحية والعملية التي تفصله عنا ،لا بُدَّ له من التخطيط الفكري والعملي الذي يشل معه قدراتنا عن التحرّك ،ويوحي لنا بالانحراف من حيث لا نريد أو لا نشعر ،فنستسلم للسذاجة الطيبة ،وللكلمات المعسولة ،وللأجواء الحميمة التي يتنامى فيها الشعور بحسن الظنّ ،إنَّ علينا أن نستحضر هذا الإحساس بالفواصل الفكرية والشعورية لنخطط لعملية الثبات على الإيمان من خلال الثبات على القواعد الفكرية والعملية ،لنحفظ خطواتنا من الزلل ،ومشاعرنا من الذوبان ،وأفكارنا من الانحراف ،ولا سيما في مثل هذه الأوقات التي يكثر فيها أعداء الإسلام ،وتتنوّع أساليب الإغراء التي تقتطع من الإسلام قطعة من هنا وقطعة من هناك ،لحساب قضية من القضايا غير الإسلامية ،ليتجمع النّاس حولها فيحسبوها من الإسلام ،وما هي من الإسلام ،إن هي إلاَّ الكفر المقنَّع خلف الواجهات الإسلامية .
إنَّ اللّه يريد من الإنسان أن يعيش الوعي العميق الممتد في كلّ خطواته من خلال وعيه لتجاربه في ما حوله وفي من حوله ،ليسير إلى غاياته على أساس الرؤية الواضحة ،والإرادة الحرة ،لينتهي إلى رحاب اللّه من موقع الطاعة الواعية المستقيمة .