قوله: فأزلهما الشيطان عنها أزلهما من الإزالة أو الزوال بمعنى الصرف والإبعاد ،وقريب من هذا المعنى وهي التنحية ،وثمة قول آخر وهو يتضمن معنى الزلل ،أي أن الشيطان قد أوقع آدم وحواء في الزلل وهي الخطيئة بمعصية الله سبحانه ،والذي يعول عليه هو القول الأول والذي يذهب إلى أن الكلمة تعني التنحية والإبعاد عن الجنة بسبب المعصية ،وعلى ذلك يكون قوله: (عنها (معناه: بسببها أي بسبب الخطيئة المقترفة ،والشيطان من الفعل شطن أي بعد وأشطن أي أبعد عن الخير والحق ونقول: تشيطن أي فعل فعل الشيطان ،وهو البعد عن الخير والحق .
والمصدر شطون وهو البعد ،وعلى ذلك فالشيطان كلمة تتضمن الكائن الجني أو الإنسي البعيد عن الخير والحق ،فهو بذلك الكائن العاتي المتمرد الذي تجتمع في كيانه كمل مسالك الشر والباطل ،والذي يسعى في الأرض ليثير فيها أسباب الفساد والشر وكل ظواهر الأذى والباطل .
قوله: (فأخرجهما مما كانا فيه (قد أنزل الشيطان آدم وزوجه بإبعادهما وتنحيتهما عن الجنة حيث النعيم ،المقيم وحيث الخير والأمن والعيش الرغيد ،وقد كان ذلك حسدا من ذلك الكائن المتمرد اللعين الذي جهد في إغواء آدم ليخرجه وزوجه مما كانا فيه من نعيم الجنة .
قوله: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو (كان ذلك قرارا ربانيا حاسما لا معقب له ،وهو أن يهبطوا من الجنة ليكون بعضهم لبعض عدو ،والهبوط معناه النزول من عل إلى أسفل واختلف في حقيقة المخاطبين الذين تشير إليهم واو الجماعة في قوله: ( اهبطوا (ولعل الراجح في ذلك أنهم آدم وزوجه حواء ثم إبليس ،وقيل المقصود هم آدم وزوجه وذريتهما من بعدهما ،لكن القول الأول أقرب للصواب وذلك بالنظر للإيحاء الذي يشير إليه قوله: (عدو (ذلك أن بني آدم في صراع محتوم ومستديم مع الشياطين ،سواء منهم شياطين الجن أو شياطين الإنس ،فكلهم شياطين يوحون لبني البشر بالفتنة وصنع الموبقات ليظلوا في عناء وعنت في هذه الدنيا وليكتب للهالكين منهم وتعس وسوء مصير .
وحقيقة النزول هنا يمكن تصورها على أنها مفهوم نسبي ،وذلك بالنظر لتصور الإنسان الحسي عن الهبوط أو الانحدار مما هو عال مرتفع مزعوم ليقول ألا هبوط أو نزول ما دامت الأجرام تدور في أفلاكها وسط هذا الفضاء الرحيب .
قوله: (بعضكم لبعض عدو (عدو من العدوان وهو الظلم ،أو مجاوزة الحد كما قيل والعدوان هنا مجاوزة الحد حاصلان في هذه الدنيا بما تحويه على متنها من خلائق من البشر أو الشياطين ،والبشر في هذه الحياة تدور فيما بينهم قوارع الصراع المحتدم وعواتي الظلم اللجوج ما دامت النفوس يحفزها الهوى الجانح أو الأنانية الضاغطة ،وكذلك فإن الصراع عات ومحموم بين البشر أنفسهم و الشياطين ،و كلا الفريقين يمران في الأرض لا يبرحهما الكيد و العداء و التربص .
و على ذلك فإن بني آدم و الشياطين بعضهم لبعض عدو فضلا عن العداء الذي يدور بين بني آدم أنفسهم ،و سوف تظل الحال على هذا المنوال من العدوان المستحكم في هذه الأرض ومن عليها حتىيرث الله الأرض و من عليها .مع أنه قد قيل في المقصود من هذه الآية بأن العدوان المستحكم بين الناس أنفسهم و فيما بينهم .
و في تقديرنا أن هذا القول أن هذا القول مرجوح و أن القول الأول لهو الصواب و الله أعلم .
قوله: ( و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين ) الجار و المجرور في قوله: ( لكم ) في محل رفع خبر مقدم ،و مستقر مبتدأ .الله جل جلاله يقرر بعد هبوط آدم إلى الأرض أن له و ذريته مستقرا و هو القرار المؤقت .و أن لهم كذلك فيها متاع ،و هو كل ما يستمتع به من زاد أو كساء أو حديث أو صحبة أو مأوى .على أن ذلك كله يتسم بالتوقيت المحدود الذي ينتهي بعد حين و هو قدوم الموت .و على ذلك فإن الاستقرار و المتاع على هذه الأرض يكونان حال الحياة و قبل انتهاء الأجل ،فالمقصود بقوله: ( حين ) الموت .و قيل: معناه قيام الساعة .و لا نتصور هذا ،بل إن القول الأول هو الراجح .