ثم بين القرآن بعد ذلك ما وقع فيه آدم من خطأ فقال:( فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ) أي:اذهبهما عن الجنة عليهما ومقاسمته أنه لهما من الناصحين .
وأزل من الإِزلال وهو الإِزلاق:زل يزل زلا وزللا ، أي:زلق في طين أو منطق ، والاسم الزلة . وأزلة غيره واستزله:أي أزلقه . أطلق وأريد به لازمه وهو الإِذهاب .
وقرئ ( فَأَزَلَّهُمَا ) أي:نحاهما من الإِزالة ، تقول أزلت الشيء عن مكانه إزالة:أي:نحيته وأذهيته عنه .
ثم استعمل هذا اللفظ في ارتكاب الخطيئة كما استعمل في خطأ الرأي مجازاً . والضمير في قوله:( عَنْهَا ) يعود إلى الشجرة ، ومعنى أزلهما عن الشجرة ، أوقعهما في الزلة بسببها .
والتعبير بقوله:( فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ) أبلغ في الدلالة على فخامة الخيرات التي كانا يتقلبان فيها مما لو قيل:فأخرجهما من النعيم أو من الجنة لأن من أساليب البلاغة في الدلالة على عظم الشيء أن يعبر عنه بلفظ مبهم كما هنا . لكي تذهب نفس السامع في تصور عظمته وكماله إلى أقصى ما يمكنها أن تذهب إليه .
ونسبة إخراجهما من الجنة إلى الشيطان في قوله:( فَأَخْرَجَهُمَا ) من قبيل نسبة الفعل إلى ما كان سبباً فيه ، وذلك أن أكلهما من الشجرة الذي ترتب عليه إخراجهما من الجنة إنما وقع بسبب وسوسة الشيطان لهما .
وقوله - تعالى - ( وَقُلْنَا اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) الخطاب فيه لآدم وحواء ونسلهما .
والهبوط:النزول من أعلى إلى أسفل ضد الصعود . يقال:هبط يهبِط ويهبُط أي:نزل من علو إلى أسفل .
والعداوة معناها التناكر والتنافر بالقلوب .
أي:قلنا لآدم وحواء والشيطان انزلوا إلى الأرض متنافرين متباغضين ، يبغى بعضكم على بعض .
وعداوة الشيطان لآدم نشأت عن حسد وتكبر منذ أن أُمِر بالسجود فأبى وامتنع وقال:أنا خير منه .
وعداوة آدم وذريته للشيطان من جهة أنه يكيد لهم بالوسوسة والإِغراء وفي هذه الجملة الكريمة إرشاد لآدم وذريته ، ونهى لهم عن اتباع الخطوات الشيطان ، لأنه عدو لهم ، ومن شأن العدو أنه يسعى لمضرة عدوه .
قال - تعالى - ( إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير ) ثم ختمت الآية بقوله - تعالى -:( وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ ) .
المستقر:موضع الاستقرار والثبات ، وهو مقابل القلق والاضطراب ، والمتاع:اسم لما يستمتع به من مأكل ومشرب وملبس وحياة وأنس وغير ذلك ، مأخوذ من متع النهار متوعاً إذا ارتفع ، ويطلق على الانتفاع الممتد الوقت .
والحين:الجزء من الزمان غير محدد بحد ، والمراد به هنا وقت الموت أو يوم القيامة .
والمعنى:انزلوا إلى الأرض بعضكم لبعض عدو؛ ولكم فيها منزل وموضع استقرار . وتمتع بالعيش إلى أن يأتيكم الموت .
ومن كان على ذكر دائم من أن استقراره في الأرض وتمتعه بنعيمها سينتهي في وقت ، لا يدري متى يدركه ، فشأنه أن ينتفع بخيراتها ويتمتع بطيب العيش فيها ، وهو مقبل على العمل لمرضاة الله ما استطاع ، وشاكر لأنعمه بالقلب واللسان ، لا يشغله عن الشكر شاغل من ملذات هذه الحياة ومظاهر زينتها .