] وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ[ أي: امرأتك ،والزوج يطلق على الذكر والأنثى ،] الْجنّة[،والظاهر أنَّ المراد بها جنّة الخلد ،لأنَّ الألف واللام للتعريف وقد صارا كالعلم عليها ،وهناك من قال بأنها جنّة من جنّات السَّماء غير جنّة الخلد ،لأنَّ جنّة الخلد أكلها دائم ولا تكليف فيها ،وقال أبو مسلم: هي جنّة من جنان الدنيا في الأرض ،وقال: إنَّ قوله:] اهْبِطُواْ مِنْهَا[،لا يقتضي كونها في السَّماء ،لأنه مثل قوله:] اهْبِطُواْ مِصْرًا[.وهذان القولان لا يرتكزان على قاعدة ثابتة ،لأنَّ الأساس فيهما هو امتناع أن تكون هي الجنّة الموعودة ،باعتبار أنها التي لا يخرج منها الداخل فيها ،ولكن لا دليل على ذلك ،لأنَّ هذا شأن الذي يدخل الجنّة بعد انقضاء مدّة العمل في الدنيا وبعثه بعد الموت في الآخرة ،وليس مثل مسألة آدم الذي أدخله اللّه الجنّة ليعيش التجربة الصعبة فيها ،وليتعرف قيمتها في خطّ العمل ،ليعمل لها في المستقبل ،ولتكون هدف أولاده من بعده في السعي الحثيث إليها من خلال الإيمان والعمل ،وربما نستوحي ذلك من قوله تعالى:] يَا بَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجنّة[ [ الأعراف:27] ،فقد يكون المراد هو التحذير من فتنة الشيطان لبني آدم حتى لا يبعدهم عن الجنّة كما أبعد أبويهم عنها .
وقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق ( ع ) أنه سئل عن جنّة آدم فقال: «كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر ،ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً » .فإذا صحَّ هذا الحديث كان هو الحجّة على المدّعى .
] وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا[ في عيش هنيّ طيب واسع لا نفاد له ولا عناء فيه ،فليست هناك شجرة محرّمة في كلّ أشجار الجنّة ،وليس هناك موقع ممنوع عنكم فيها .
] وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ[ أي: لا تأكلا منهاعلى سبيل الكنايةباعتبار أنَّ المطلوب بالقرب منها ،هو الأكل من ثمرها ،تماماً كما يأكلان من بقية أشجار الجنّة ،فكأنه قال: كُلا منها رغداً إلاَّ من هذه الشجرة .وفي التعبير عن الأكل بالقرب منها مبالغة في التحذير .واختلف المفسّرون في نوع هذه الشجرة ،بين المعنى المادي للكلمة وهو السنبلة والكرمة والكافور ونحو ذلك ،وبين المدلول المعنوي لها وهو: أنَّ المراد بها شجرة العلم ؛علم الخير والشر على سبيل الاستعارة ،ولكن لا دليل على شيء من ذلك بشكل موثق .
] فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ[ لأنفسكما بذلك ،لأنكما أبعدتماها عن موقع السعادة وساحة الخلود .
خلاصات وتساؤلات من وحي قصة الخلق:
هذا هو الفصل الأخير من الفصول التي تحدّث فيها القرآن الكريم عن بداية الخلق ،وعن دور الإنسان وقيمته ،وكيف أراد اللّه سبحانه أن يظهر قيمة الإنسان وكرامته وأهميته من خلال الحوار بين اللّه والملائكة ،ثُمَّ بين الملائكة وآدم الذي قام بدور المعلم لهم في ما تحدّاهم اللّه بأن يعلموه فلم يستطيعوا ،ليوضح لهم السرّ في خلقه ،ليعرفوامن خلال ذلكأنَّ السلبيات التي تحدث من خلال وجوده وخلافته لا تقابل الإيجابيات الكبيرة جداً التي تكمن في طبيعة هذا الإنسان وفي مؤهلاته الذاتية للخلافة عن اللّه في الأرض .
ثُمَّ ينطلق في الفصل الثاني ليتحدّث عن رمز التقديس للإنسان ،في ما أراده اللّه من الملائكة ،في سجودهم لآدم ،وهم الذين يمثّلون القمة في الروح والقرب من اللّه ،فلمّا امتنع إبليس من السجود له ،كتعبير عن الكبرياء والاستعلاء ،عاقبه اللّه وأخرجه من رحمته .
أمّا في هذا الفصل ،فإنَّ القرآن يدخل في تصوير تجربة الإنسان للمسؤولية ،وكيف تتدخل نوازع الإغراء الكامنة في طبيعته في سقوطه أمام التجربة أحياناً ،وكيف استطاع إبليس أن يستغل ذلك في إزاحته عن الخطّ المستقيم من خلال إغراءاته وتسويلاته .وإننا في هذا السياق التفسيري لسورة البقرة ،نريد أن نستوحي الآية من طبيعة القصة ،ثُمَّ ندخلبعد ذلكفي التفاصيل الفكرية للقضايا التي أثارتها هذه الآيات ،وذلك في عدّة نقاط .
تجربة الإنسان الأولى:
إنَّ اللّه أباح لآدم وحواء أن يسكنا الجنّة ،ويستمتعا بكلّ ما فيها من لذائذ من دون حرج ولا تحديد ،فلهما أن يأكلا من كلّ أشجار الجنّة حيث يشاءان ،ولكنَّه منعهما عن شجرة واحدة كشرط لبقائهما في الجنّة ،في ما يوحيه جوّ الآيات:] وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجنّة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ[.
ولا نريد أن ندخل في تفاصيل تحديد هذه الشجرة ؛هل هي شجرة تفاح ،أم هي سنبلة ،أم هي شجرة معنوية ،كما يحلو للبعض أن يقول أنها شجرة معرفة الخير والشر ،لأنَّ ذلك لا يمسّ طبيعة الموضوع ،ولا يفيدنا في شيء .
كانت أول تجربة لهما في الوجود ،وانسجما مع التجربة ببساطة وعفوية .وكان الشيطان لهما بالمرصاد ؛فقد عرف أنَّ الفكر الذي يملكه الإنسان لا يقوى على مواجهة التحدّيات إلاَّ من خلال التجارب المريرة التي يتعلّم من خلالها أنَّ الحياة لا تتمثّل في وجه واحد ،فهناك عدّة وجوه وألوان .ولم تكن لهذين المخلوقَيْن الجديدين أية تجربة سابقة مع الغش والكذب والخداع واللف والدوران ؛كان الصدق ،وكانت البراءة في مواجهة الأشياء ،وكانت العفوية في تقبّل الكلمات ،هي الطابع للشخصية البريئة النقية من كلّ لوث أو شائبة ،أو خاطر سوء ،والتي لم تصهرها التجارب بعد ،ولم تتعرف إلى ما معنى الخير ومعنى الشر ،فنظرتها لكلّ ما حولها نظرة تفاؤلية جيّدة ،وقد كان هذا كلّه متمثّلاً في كيانهما .
أمّا حصيلتنا من هذه الآياتفي الخطّ العملي لحياتنافهي أن نستفيد من تركيز اللّه على عداوة إبليس لآدم ،لإثارة عمق الإحساس بالعداوة في حياتنا إزاء إبليس وجنوده ،ما يجعلنا نعيش الحذر في الفكرة ،وفي الكلمة ،وفي الخطوات العملية ،وذلك بأن ننفذ إلى أعماق ذلك كلّه في شهواتنا وخلفياتها الذاتية ،لأنَّ الدوافع الشريرة قد تختبىء وراء ستار كثيف من الانطباعات السطحية الخفيفة الكامنة في زوايا النفس ،وقد تتلوّن ببعض الألوان المحببة إلى النفس في ما تقبله أو ترفضه .ثُمَّ نلتفت إلى ما حولنا من الأشياء التي تثيرنا نحو التحرّك ،وإلى من حولنا من النّاس الذين نختلف معهم في جوانب العقيدة والحياة عندما نلتقي بهم في بعض مراحل الطريق ،أو نتفق معهم في بعض خطط العمل ،لندرس كلّ علاقة فكرية أو عملية ،بروح الحذر الذكي الذي لا يتجمّد ليشلَّ في الإنسان جانب الحركة في جوّ الشك ،بل يتحرّك ليبحث عن كلّ السلبيات الكامنة في خلفيات الأشياء والنفوس ،فقد تكون هناك بعض الأمور السيئة الكامنة خلف واجهات الإغراء .
إنَّ علينا أن نضع أمامنا حقيقة العداوة مع الأعداء ،فلا نستسلم لحالات الاسترخاء الطيِّب في نفوسنا للعلاقات الطارئة التي تعيش في جوٍّ حميم ،لأنَّ العدو الذي يعيش الإحساس بالفواصل الفكرية والروحية والعملية التي تفصله عنا ،لا بُدَّ له من التخطيط الفكري والعملي الذي يشل معه قدراتنا عن التحرّك ،ويوحي لنا بالانحراف من حيث لا نريد أو لا نشعر ،فنستسلم للسذاجة الطيبة ،وللكلمات المعسولة ،وللأجواء الحميمة التي يتنامى فيها الشعور بحسن الظنّ ،إنَّ علينا أن نستحضر هذا الإحساس بالفواصل الفكرية والشعورية لنخطط لعملية الثبات على الإيمان من خلال الثبات على القواعد الفكرية والعملية ،لنحفظ خطواتنا من الزلل ،ومشاعرنا من الذوبان ،وأفكارنا من الانحراف ،ولا سيما في مثل هذه الأوقات التي يكثر فيها أعداء الإسلام ،وتتنوّع أساليب الإغراء التي تقتطع من الإسلام قطعة من هنا وقطعة من هناك ،لحساب قضية من القضايا غير الإسلامية ،ليتجمع النّاس حولها فيحسبوها من الإسلام ،وما هي من الإسلام ،إن هي إلاَّ الكفر المقنَّع خلف الواجهات الإسلامية .
إنَّ اللّه يريد من الإنسان أن يعيش الوعي العميق الممتد في كلّ خطواته من خلال وعيه لتجاربه في ما حوله وفي من حوله ،ليسير إلى غاياته على أساس الرؤية الواضحة ،والإرادة الحرة ،لينتهي إلى رحاب اللّه من موقع الطاعة الواعية المستقيمة .