/م35
وأما تفسير هذه الآيات بالتفصيل فقد اختلف علماء المسلمين من أهل السنة وغيرهم في ( الجنة ) هل هي البستان أو المكان الذي تظلله الأشجار بحيث يستتر الداخل فيه كما يفهمه أهل اللغة ؟ أم هي الدار الموعود بها في الآخرة ؟ والمحققون من أهل السنة على الأول .قال الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسيره المسعى بالتأويلات:نعتقد أن هذه الجنة بستان من البساتين أو غيضة من غياض كان آدم وزوجه منعمين فيها ، وليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها ، وهذا هو مذهب السلف ، ولا دليل لمن خاض في تعيين مكانها من أهل السنة وغيرهم .
وبهذا التفسير تنحل إشكالات كثيرة وهي ( 1 ) إن الله خلق آدم في الأرض ليكون هو ونسله خليفة فيها ، فالخلافة مقصود منهم بالذات فلا يصح أن تكون عقوبة عارضة ( 2 ) إنه لم يذكر أنه بعد خلقه في الأرض عرج به إلى السماء ولو حصل لذكر لأنه أمر عظيم ( 3 ) إن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلا المؤمنون المتقون ، فكيف دخلها الشيطان الكافر الملعون ؟ ( 4 ) إنها ليست محلا للتكليف ( 5 ) إنه لا يمنع من فيها من التمتع بما يريد منها ( 6 ) إنه لا يقع فيها العصيان .وبالجملة إن الأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها لا تنطبق على ما كان في جنة آدم ، ومنه كون عطائها غير مجذوذ ولا مقطوع وغير ذلك .
( أقول ) وقد أجاب بعضهم عن بعض هذه الإشكالات ولكل من الفريقين إشكالات وأجوبة أطال في بيانها ابن القيم في ( حادي الأرواح ) ولم يرجح شيئا ولذلك مال بعضهم إلى الوقف ، وما اختاره شيخنا أقوى .وقد قال به أبو حنيفة وتبعه أبو منصور ، وقد كان ظهر لي عند كتابة تفسير الآيات شيء آخر لم يذكره الأستاذ الإمام ولم أره في كتب التفسير وهو أن القول بأن آدم أسكن جنة الآخرة يقتضي أن تكون الآخرة هي الدار الأولى والدنيا فتكون التسمية للدارين غير صحيحة وينافى أيضا كون الجنة دار ثواب يدخلها المتقون جزاء بما كانوا يعلمون كما ورد في الآيات الكثيرة .
وقد قال تعالى{ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} ولم يقل ( ادخل ) ولو انتقل من الأرض التي خلق فيها إلى الجنة لقال هذا أو ما بمعناه مما يشير على الانتقال فقوله{ اسكن} يشير إلى أن الخلقة كانت في تلك الجنة أو بالقرب منها ، وقوله{ وكلا منها رغدا حيث شئتما} إباحة للتمتع بتلك الجنة والتنعم بما فيها أي كلا منها أكلا رغدا واسعا هنيئا من أي مكان منها إلا شيئا واحدا نهاهما عنه بقوله{ ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} لأنفسكما بالوقوع فيما يترتب على الأكل منها ، ولم يعين الله تعالى لنا هذه الشجرة فلا نقول في تعيينها شيئا ، وإنما نعلم أن ذلك لحكمة اقتضته ، ولعل في خاصية تلك الشجرة ما هو سبب خروجهما من حال إلى حال ، وربما كان في الأكل منها ضرر ، أو كان النهي ابتلاء وامتحانا منه تعالى ليظهر به ما في استعداد الإنسان من الميل إلى الإشراف على كل شيء واختباره ، وإن كان في ذلك معصية يترتب عليها ضرر{[28]}
/خ37