قال تعالى{ والذين كفروا وكذبوا بآيتنا} ( أقول ) الآيات:جمع آية وهي كما قال الجمهور:العلامة الظاهرة قال الراغب وحقيقته لكل شيء ظاهر ملازم لشيء باطن يعرف به ويدرك بإدراكه حسيا كان كأعلام الطرق ومنار السفن أو عقليا كالدلائل المؤلفة من مقدمات ونتيجة ا ه بالمعنى ( قال ) واشتقاق الآية إما من رأى فإنها هي التي تبين أيا من أي ، والصحيح أنها مشتقة من التأنّي الذي هو التثبت والإقامة على الشيء ا ه أقول:بل أصله قصد آية الشيء أي شخصه ، ومنه قول الشاعر:
تتأيا الطير غدوته ***ثقة بالشبع من جزره
أي تتحرى الطير وتقصد خروجه صباحا إلى القتال أو الصيد لثقتها بما سبق من التجارب بأن تستشبع مما يترك لها من الفرائس .
وأطلقت الآية على كل قسم من الأقسام التي تتألف منها سور القرآن العظيم وتفصله من غيره فاصلة يقف القارئ عندها في تلاوته .ويميزها الكاتب له ببياض أو بنقطة دائرة أو ذات نقش أو بالعدد .والعمدة في معرفة الآيات بفواصلها التوقيف المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان أكثرها يدرك من النظم ، والآيات تطلق في القرآن على هذه وهي الآيات المنزلة من عند الله تعالى لأنها دلائل لفظية على العقائد والحكم والأحكام والآداب التي شرعها لعباده كما تدل في جملتها على كونها من عند الله تعالى لاشتمالها على ما تقدم بيانه من وجود البشر عن مثلها .وتطلق أيضا على كل ما يدل على وجود الخالق تعالى وقدرته ووحدانيته وصفات كماله من هذه المخلوقات ، ومن نتائج العقول وبراهينها ، أو على غير ذلك من السنن والعبر .
وهذه الآية مقابل قوله قبله{ فمن اتبع هداي} الخ ، أي وأما الذين لم يتبعوا هداي وهم الذين كفروا بنا وكذبوا بآياتنا المبينة لسبيل ذلك الهدى – كما قال قبل قصة آدم{ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم} – أو:وأما الذين كفروا بآياتنا اعتقادا ، وكذبوا بها لسانا ، فجزاؤهم ما يأتي ، والتكذيب كفر ، سواء أكان عن اعتقاد بعدم صدق الرسول أم مع اعتقاد صدقه وهو تكذيب الجحود والعناد الذي قال لرسوله صلى الله عليه وسلم في أهله{ 6:33 فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} كما أن الكفر القلبي قد يوجد مع تصديق اللسان كما هي حال المنافقين .والمعنى كما قرره شيخنا بالاختصار:والذين كفروا وكذبوا بآيتنا التي يجعلها دلائل الهداية وحجج الإرشاد بأن جحدوا بها وأنكروا ، ولم يذعنوا لصدقها ، اتباعا لخطوات الشيطان وعملا بوسوسته ، وذهابا مع إغوائه{ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} تقدم تفسير الخلود في آخر الآية 25 وأقول:إن هذه الجملة تدل على الحصر أو الاختصاص الإضافي ، أي أولئك الكافرون المكذبون البعداء هم دون متبعي هداي أصحاب النار وأهلها هم فيها خالدون لا يظعنون عنها .أي وهم في خوف قاهر ، وحز مساور ، وقد فسر الجلال الآيات بالكتب المنزلة ، وهو يصح في القرآن فإنه آية على نفسه ، وعلى صدق من جاء به ، وسائر الكتب تحتاج إلى آية تدل على أنها من عند الله تعالى .
( قال الأستاذ ) بعد تفسير الكفر بالجحود ، والتكذيب بالإنكار:وكل منهما يأتي في فرق من الناس ، فمنهم من لا تقوى ولا إيمان له وهم الذين لا يؤمنون بالغيب لأنه ليس عندهم أصل للنظر فيما جاءهم ، فهؤلاء منكرون وهم مكذبون لأن التكذيب يشمل عدم الاعتقاد بصدق الدعوى التي جاء بها الرسول واعتقاد كذبها ، والجحود قد يأتي من المعتقد .قال تعالى{ 27:14 وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) .
فهذا هو الطور الأخير للإنسان بعد ما وكل إلى كسبه ، وجعل فلاحه وخسرانه بعمله ، فمن لطف الله به أن أيده بهداية الدين بعد هداية الحس والوجدان والعقل ، فبهذه الهدايات يرتقي بالتدريج ما شاء الله تعالى .