قوله:{ في بحر لجي} «اللجي » العميق ، منسوب إلى لجة البحر . وهو معظمه .
وقوله تعالى:{ يغشاه موج منن فوقه موج من فوقه سحاب} تصوير لحال هذا المعرض عن وحيه سبحانه وتعالى .
فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره بتلاطم أمواج ذلك البحر . وأنها أمواج بعضها فوق بعض .
والضمير الأول في «يغشاه » راجع إلى البحر . والضمير الثاني في قوله «من فوقه » عائد إلى الموج .
ثم إن بلك الأمواج مغشاة بسحاب .
فهاهنا ظلمات:ظلمة البحر اللجي ، وظلمة الموج الذي فوقه ، وظلمه السحاب الذي فوق ذلك كله . إذا أخرج من في هذا البحر يده لم يكد يراها .
واختلف في معنى ذلك ؟
فقال كثير من النحاة:هو نفي لمقاربة رؤيتها . وهو أبلغ من نفيه الرؤية ، وأنه قد ينفي وقوع الشيء ولا ينفي مقاربته . فكأنه قال:لم يقارب رؤيتها بوجه .
قال هؤلاء:«كاد » من أفعال المقاربة ، لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات .
فإذا قيل:كاد يفعل هو إثبات مقاربة الفعل . فإذا قيل:لم يكد يفعل ، فهو نفى لمقاربة الفعل .
وقالت طائفة أخرى:بل هذا دال على أنه إنما يراها تعد جهد شديد ، وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر ، لأجل تلك الظلمات .
قالوا:لأن «كاد » لها شأن ليس لغيرها من الأفعال . فإنها إذا أثبتت نفت ، وإذا نفت أثبتت ، فإذا قلت:ما كدت أصل إليك . فمعناه:وصلت إليك بعد الجهد والشدة . فهذا إثبات للوصول ، وإذا قلت:كاد زيد يقوم . فهي في لقيامه ، كما قال تعالى:{ وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} [ الجن:19] ومنه قوله تعالى:{ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر} [ القلم:51] وأشد بعضهم في ذلك لغزا:
أنحوى هذا العصر:ما هي لفظة *** جرت في لسان جرهم وثمود
وإذا استعملت في صورة النفي أثبتت *** فإن أثبتت قامت مقام جهود ؟
وقالت فرقة ثالثة ، ( منهم أبو عبد الله بن مالك وغيره ):إن استعمالها مثبتة يقتضي نفي خبرها ، كقولك:كاد زيد يقوم . واستعمالها يقتضي نفيه بطريق الأولى . فهي عنده تنفي الخبر ، سواء كانت منفية أو مثبتة:فلم يكد زيد يقوم أبلغ عنده في النفي من لم يقم . واحتج بأنها إذا نفيت وهي من أفعال المقاربة فقد نفت مقاربة الفعل ، وهو أبلغ من نفيه .
وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة اسمها لخبرها . وذلك يدل على عدم وقوع . واعتذر عن مثل قوله تعال:{ فذبحوها وما كادوا يفعلون} [ البقرة:71] وعن مثل قوله:وصلت إليك وما كدت أصل ، وسلمت وما كدت أسلم:بأن هذا وارد على كلامين متباينين أي فعلت كذا بعد أن لم كن مقاربا له . فالأول يقتضي وجود الفعل . والثاني يقتضي أنه لم يكن مقاربا له ، بل كان آيسا منه . فهما كلامان مقصود بهما أمران متباينان .
وذهبت فرقة رابعة:إلى الفرق بين ماضيها ومستقبلها . فإذا كانت في الإثبات فهي لمقاربة الفعل ، سواء كانت بصفة الماضي أو المستقبل . وإن كانت في طرق النقي فإن كانت بصيغة المستقبل كانت لنفي الفعل ومقاربته نحو قوله{ فذبحوها وما كادوا يفعلون} [ البقرة:71] .
فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة .
والصحيح:أنها فعل يقتضي المقاربة . ولها حكم سائر الأفعال ، ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها . فإنها لم توضع لنفيه ، وإنما استفيد من لوازم معناها . فإنها إذا اقتضت مقاربة الفعل لم يكن واقعا ، يكون منفيا باللزوم .
وأما إذا استعملت منفية فإن كانت في كلام واحد فهي لنفي المقاربة ، كما إذا قلت:لا يكاد البطال يفلح ، ولا يكاد الجبان يفرح . ونحو ذلك .
وإن كانت في كلامين اقتضت وقوع الفعل تعد أن لم يكن مقاربا . كما قال ابن مالك .
فهذا التحقيق في أمرها .
والمقصود:أن قوله:{ لم يكد يراها} إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة ، وهو الأظهر . فإذا كان لا يقارب رؤيتها فكيف يراها ؟ قال ذو الرمة:
إذا غَيَّر النأي المحبين ، لم يكد *** رسيس الهوى من حب مَيَّة يبرح
أي لم يقارب البراح . وهو الزوال . فكيف يزول ؟
فشبه سبحانه أعمالهم أولا في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم بسراب خداع يدع رائيه من بعيد ، فإذا جاءه وجد عنده عكس ما أمّله ورجاه .
وشبهها ثانية في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج ، الذي قد غشيه السحاب من فوقه .
فياله تشبيها ما أبدعه ، وأشد مطابقة لحال أهل البدع والضلال ، وحال من عبد الله سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم وترك به كتابه .
وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح ، ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم .
وكل واحد من السراب والظلمات مثل لمجموع علومهم وأعمالهم . فهي سراب لا حاصل لها ، وظلمات لا نور فيها .
وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه التي تلقاها من مشكاة النبوة . فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد . ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة . ولهذا يذكر سبحانه هذين المثلين في القرآن في غير موضع لأوليائه وأعدائه .
وقال في «أعلام الموقعين »:
ذكر سبحانه للكافرين مثلين:مثلا بالسراب ، ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان:
أحدهما:من يظن انه على شيء ، فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه ، وهذه حال أهل الجهل ، وأهل البدع والأهواء ، الذين يظنون أنهم على هدى وعلم . فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء ، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة ، يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له ، وهكذا الأعمال التي لغير الله ، وعلى غير أمره ، يحسبها العامل نافعة له ، وليست كذلك ، وهذه هي الأعمال التي قال الله عز وجل فيها:{ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} [ الفرقان:23] .
وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالقيعة - وهي الأرض القفر الخالية من البناء ، والشجر والنبات والعالم - فمحل السراب أرض قفر لا شيء بها ، والسراب لا حقيقة له ، وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى وتأمل ما تحت قوله:{ يحسبه الظمآن ماء} والظمآن:الذي قد اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه ، فلم يجده شيئا ، بل خانه أحوج ما كان إليه . فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولغير الله جعلت كالسراب ، فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها ، فلم يجدوا شيئا ، ووجدوا الله سبحانه ثَمَّ فجازاهم بأعمالهم ، ووفاهم حسابهم .
وفي «الصحيح » من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث التجلي يوم القيامة «ثم يؤتى بجهنم ، تعرض كأنها السراب ، فيقال لليهود:ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون:كنا نعبد عزير ابن الله ، فيقال:كذبتم ، لم يكن لله صاحبة ولا ولد ، فما تريدون ؟ قالوا:نريد أن تسقينا ، فيقال لهم:اشربوا ، فيتساقطون في جهنم ، ثم يقال للنصارى:ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون:كنا نعبد المسيح ابن الله ، فيقال لهم:كذبتم ، لم يكن لله صاحبة ولا ولدا فما تريدون ؟ فيقولون:نريد أن تسقينا ، فيقال لهم:اشربوا ، فيتساقطون » وذكر الحديث .
وهذه حال كل صاحب باطل ، فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه .
فإن الباطل لا حقيقة له ، وهو كاسمه باطل .
فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا ، وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة ، كالعمل لغير الله ، أو على غير أمره ، بطل العمل ببطلان غايته ، وتضرر عامله ببطلانه ، وبحصول ضد ما كان يؤمله ، فلم يذهب عليه عمله واعتقاده ، لا له ولا عليه ، بل صار معذبا بفوات نفعه ، وبحصول ضد النفع فلهذا قال تعالى:{ ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} [ النور:39] فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى .
فصل
النوع الثاني:أصحاب مثل الظلمات المتراكمة وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال ، فتراكمت عليهم ظلمة الطبع ، وظلمة النفوس وظلمة الجهل ، حيث لم يعملوا بعلمهم ، فصاروا جاهلين ، وظلمة اتباع الغنى والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي ، لا ساحل له ، وقد غشيه موج ، ومن فوق ذلك الموج موج ، ومن فوقه سحاب مظلم ، فهو في ظلمة البحر ، وظلمة الموج وظلمة السحاب .
وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان .
وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة ، وهو الماء ، والظلمات المضادة للنور:نظير المثلين الذين ضربهما الله للمنافقين والمؤمنين ، ( وهما المثل المائي ، والمثل الناري ) ، وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق ، وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور ، والموت المضاد للحياة ، فكذلك الكفار في هذين المثلين:حظهم من الماء السراب الذي يغر الناظر ولا حقيقة له ، وحظهم الظلمات المتراكمة .
وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار ، وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار ، وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة ، بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
وأصحاب المثل الثاني:هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى ، وآثروا الباطل على الحق ، وعموا عنه بعد أن أبصروه ، وجحدوه بعد أن عرفوه ، فهذا حال المغضوب عليهم والأول حال الضالين .
وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى:{ الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح -إلى قوله - ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب} [ النور:35 . 38] .
فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم ، ( وهم أهل النور ) ، والضالين ، ( وهم أصحاب السراب ) ، والمغضوب عليهم ( وهم أهل الظلمات المتراكمة ) ، والله أعلم .
فالمثل الأول:من المثلين:لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع .
والمثل الثاني:لأصحاب العلم الذي لا ينفع ، والاعتقادات الباطلة ، وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق ، ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم:بتلاطم أمواج البحر فيه ، وأنها أمواج متراكمة ، من فوقها سحاب مظلم ، وهكذا أمواج الشكوك والشبهات في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل .
فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين وليطابق بينهما وبين المثلين:يعرف عظمة القرآن وجلالته ، وأنه تنزيل من حكيم حميد .
وأخبر سبحانه ، أن الموجب لذلك:أنه لم يجعل لهم نورا ، بل تركهم على الظلمة التي خلقوا فيها ، فلم يخرجهم منها إلى النور ، فإنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور .
وفي «المسند » من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله خلق خلقه في ظلمة ، وألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل ، فلذلك أقول:جف القلم على علم الله » .
فالله سبحانه خلق الخلق في ظلمة ، فمن أراد هدايته جعل له نورا وجوديا يحي به قلبه وروحه ، كما يحيى بدنه بالروح التي ينفخها فيها .
فهما حياتان:«حياة البدن بالروح ، وحياة الروح والقلب بالنور » ، ولهذا سمى سبحانه الوحي «روحا » ، لتوقف الحياة الحقيقية عليه ، كما قال تعالى:{ ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده} [ النحل:2] وقال:{ يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} [ غافر:15] وقال تعالى:{ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [ الشورى:52] .
فجعل وحيه روحا ونورا فمن لم يحيه بهذا الروح فهو ميت ، ومن لم يجعل له نورا منه فهو في الظلمات ما له من نور .