لا خلاف أن لفظة «اللهم » معناها:يا الله . ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب . فلا يقال:اللهم غفور رحيم ، بل يقال:اللهم اغفر لي وارحمني ، واختلف النحاة في الميم المشددة من آخر الاسم .
فقال سيبويه:زيدت عوضا من حرف النداء ، ولذلك لا يجوز عنده الجمع بينهما في اختيار الكلام ، فلا يقال:«يا اللهم » إلا فيما ندر ، كقول الشاعر:
إني إذا ما حدث ألما *** أقول يا اللهم ، يا اللهم
ويسمى ما كان من هذا الضرب عوضا . إذ هو في غير محل المحذوف . فإن كان في محله سمي بدلا ، كالألف في «قام ، وباع » فإنها بدل عن الواو والياء ولا يجوز عنده أن يوصف هذا الاسم أيضا . فلا يقال:يا اللهم الرحيم ارحمني ، ولا يبدل منه .
والضمة التي على الهاء ضمة الاسم المنادى المفرد وفتحت الميم لسكونها وسكون الميم التي قبلها . وهذا من خصائص هذا الاسم . كما اختص بالتاء في القسم . وبدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف ، وبقطع همزة وصله في النداء ، وبتفخيم لامه وجوبا غير مسبوقة بحرف إطباق ، هذا ملخص مذهب الخليل وسيبويه .
وقيل:الميم عوض عن جملة محذوفة والتقدير:يا الله أمنا بخير ، أي:اقصدنا ، ثم حذف الجار والمجرور ، وحذف المفعول فبقي في التقدير:يا الله أم . ثم حذفت الهمزة لكثرة دوران هذا الاسم في الدعاء على ألسنتهم فبقي:«يا اللهم » ، وهذا قول الفراء وصاحب هذا القول يجوز دخول «يا » عليه ، ويحتج بقول الشاعر:
يا اللهم ما اردد علينا سحا مسلما *** . . .
وبالبيت المتقدم وغيرهما رد البصريون هذا بوجوه:
أحدها:أن هذه التقادير لا دليل عليها ولا يقتضيها القياس ، فلا يصار إليها بغير دليل .
الثاني:أن الأصل عدم الحذف . فتقدير هذه المحذوفات الكثيرة خلاف الأصل .
الثالث:أن الداعي بهذا قد يدعو بالشر على نفسه وعلى غيره ، فلا يصح هذا التقدير فيه .
الرابع:أن الاستعمال الشائع الفصيح يدل على أن العرب لم تجمع بين «يا » و«اللهم » ولو كان أصله ما ذكره الفراء لم يمتنع الجمع . بل كان استعماله فصيحا شائعا . والأمر بخلافه .
الخامس:أنه لا يمتنع أن يقول الداعي:اللهم أمنا بخير ، ولو كان التقدير كما ذكره ، لم يجز الجمع بينهما ، لما فيه من الجمع بين العوض والمعوض عنه .
السادس:أن الداعي بهذا الاسم لا يخطر ذلك بباله ، وإنما تكون غايته مجردة إلى المطلوب بعد ذكر الاسم .
السابع:أنه لو كان التقدير ذلك لكان «اللهم » جملة تامة ، يحسن السكوت عليها . لاشتمالها على الاسم المنادى وفعل الطلب . وذلك باطل .
الثامن:أنه لو كان التقدير ما ذكره لكتب فعل الأمر وحده ، ولم يوصل باسم المنادى ، كما يقال:يا الله قه ، ويا زيد عه ، ويا عمرو فِهْ . لأن الفعل لا يوصل بالاسم الذي قبله حتى يجعلا في الخط كلمة واحدة ، هذا لا نظير له في الخط وفي الاتفاق على وصل الميم باسم الله دليل على أنها ليست بفعل مستقل .
التاسع:أنه لا يسوغ ولا يحسن في الدعاء أن يقول العبد:اللهم أمني بكذا بل هذا مستكره اللفظ والمعنى فإنه لا يقال اقصدني بكذا إلا لمن كان يعرض له الغلط والنسيان ، فيقول له:اقصدني . وأما من لا يفعل إلا بإرادته ، ولا يضل ولا ينسى فلا يقال له:اقصد كذا .
العاشر:أنه يسوغ استعمال هذا اللفظ في موضع لا يكون بعده دعاء ، كقوله:صلى الله عليه وسلم في الدعاء:«اللهم لك الحمد ، وإليك المشتكى ، وأنت المستعان ، وبك المستغاث ، وعليك التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله » وقوله:«اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك ، وملائكتك وجميع خلقك:أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمدا عبدك ورسولك » ، وقوله تعالى:{ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء} [ آل عمران:26] ، وقوله:{ قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون} [ الزمر:46] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في ركوعه وسجوده:«سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي » .
فهذا كله لا يسوغ فيه التقدير الذي ذكروه . والله أعلم .
وقيل:زيدت الميم للتعظيم والتفخيم ، كزيادتها في «زرقم » ، لشديد الزرقة ، و«ابنم » في الابن .
وهذا القول صحيح:لكن يحتاج إلى تتمة ، وقائله لحظ معنى صحيحا ، لا بد من بيانه:
وهو أن الميم تدل على الجمع وتقتضيه ومخرجها يقتضي ذلك . وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى . كما هو مذهب أساطين العربية . وعقد له أبو الفتح بن جنى بابا في «الخصائص » . وذكره عن سيبويه ، واستدل عليه بأنواع من تناسب اللفظ والمعنى .
ثم قال:ولقد مكثت برهة يرد علي اللفظ لا أعلم موضوعه ، فأجد معناه من قوة لفظه ، ومناسبة تلك الحروف لذلك المعنى ، ثم أكشفه فأجده كما فهمته ، أو قريبا منه . فحكيت لشيخ الإسلام هذا عن ابن جنى ، فقال:وأنا كثيرا ما يجري لي ذلك . ثم ذكر لي فصلا عظيم النفع في التناسب بين اللفظ والمعنى . ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ ، وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى . والفتحة الخفيفة للمعنى الخفيف ، والمتوسطة للمتوسط . فيقولون:«عز يعَز » بفتح العين - إذا صلب ، و«أرض عَزار » صلبة ، ويقولون:«عز يعِز » بكسرها إذا امتنع ، والممتنع فوق الصلب ، فقد يكون الشيء صلبا ولا يمتنع على كاسره . ثم يقولون:عزه يعزه . إذا غلبه ، قال الله تعالى في قصة داود عليه السلام
{ وعزني في الخطاب} [ ص:23] والغلبة أقوى من الامتناع ، إذ قد يكون الشيء ممتنعا في نفسه ، متحصنا عن عدوه ، ولا يغلب غيره ، فالغالب أقوى من الممتنع ، فأعطوه أقوى الحركات وهو الضمة والصلب أضعف من الممتنع فأعطوه أضعف الحركات وهو الفتحة ، والممتنع المتوسط بين المرتبتين فأعطوه حركة الوسط .
ونظير هذا قولهم «ذِبْح » - بكسر أوله - للمحل الذبوح ، و«ذَبْح » بفتح أوله لنفس الفعل . ولا ريب أن الجسم أقوى من العرض ، فأعطوا الحركة القوية للقوي ، والضعيفة للضعيف ، وهو مثل قولهم ( نِهْب ، ونَهْب ) بالكسر للمنهوب وبالفتح للفعل .
وكقولهم:«مِلْء ومَلْء » بالكسر:لما يملأ الشيء ، وبالفتح للمصدر ، الذي هو الفعل .
وكقولهم:«حِمْل وحَمْل » فبالكسر لما كان قويا مثقلا لحامله على ظهره أو رأسه ، أو غيرهما من أعضائه ، والحمل بالفتح ، لما كان خفيفا غير مثقل ، كحمل الحيوان وحمل الشجرة به أشبه ففتحوه .
وتأمل هذا «الحِب والحُب » فجعلوا المكسور الأول لنفس المحبوب ، ومضمومه للمصدر ، إيذانا بخفة المحبوب على قلوبهم ، ولطف موقعه في أنفسهم وحلاوته عندهم ، وثقل حمل الحب ولزومه ، كما يلزم الغريم غريمه ، ولهذا يسمى غراما . ولهذا كثر وصفهم لتحمله بالشدة والصعوبة ، وإخبارهم بأن أعظم المخلوقات وأشدها من الصخر والحديد ونحوهما لو حمله لذاب من حمله ، ولم يستقل به ، كما هو كثير في أشعار المتقدين والمتأخرين وكلامهم ، فكان الأحسن أن يعطوا المصدر هنا الحركة القوية ، والمحبوب الحركة التي هي أخف منها .
ومن هذا:قولهم «قبْض » بسكون وسطه للفعل ، و«قبَض » بتحريكه للمقبوض . والحركة أقوى من السكون . والمقبوض أقوى من المصدر .
ونظيره:«سَبْق » بالسكون للفعل ، و«سَبَق » بالفتح:للمال المأخوذ في هذا العقد .
وتأمل قولهم:«دار ، دورانا » و«فارت القدر ، فورانا » و«غلت ، غليانا » كيف تابعوا بين الحركات في هذه المصادر لتتابع حركة المسمى . فطابق اللفظ المعنى .
وتأمل قولهم:«حجر » و«هواء » كيف وضعوا للمعنى الثقيل الشديد هذه الحروف الشديدة ، ووضعوا للمعنى الخفيف الهواية ، التي هي من أخف الحروف .
وهذا أكثر من أن يحاط به ، وإن مد الله في العمر وضعت فيه كتابا مستقلا إن شاء الله تعالى .
ومثل هذه المعاني يستدعي لطافة ذهن ، ورقة طبع . ولا تتأتى مع غلظ القلوب ، والرضى بأوائل مسائل النحو والتصريف ، دون تأملها وتدبرها ، والنظر إلى حكمة الواضع ، ومطالعة ما في هذه اللغة الباهرة من الأسرار التي تدق على أكثر العقول وهذا باب ينبه الفاضل على ما وراءه:
{ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [ النور:40] .
وانظر في تسميتهم الغليظ الجافي ب«العتل والجعظري ، والجواظ » ، كيف تجد هذه الألفاظ تنادي على ما تحتها من المعاني .
وانظر إلى تسميتهم الطويل ب«العشنق » ، وتأمل اقتضاء هذه الحروف ومناسبتها لمعنى الطويل ، وتسميتهم القصير ب«البحتر » ، وموالاتهم بين ثلاث فتحات في اسم الطويل ، وهو العشنق ، وإتيانهم بضمتين بينهما سكون في البحتر ، كيف يقتضي اللفظ الأول:انفتاح الفم ، وانفراج آلات النطق ، وامتدادها وعدم ركوب بعضها بعضا ، وفي اسم البحتر الأمر بالضد .
وتأمل قولهم:طال الشيء فهو طويل ، وكبر فهو كبير . فإن زاد طوله قالوا:طوالا ، وكبارا ، فأتوا بالألف التي هي أكثر مدا ، وأطول من الياء في المعنى الأطول . فإن زاد كبر الشيء ، وثقل موقعه من النفوس ثقلوا اسمه ، فقالوا:«كبَّارًا » بتشديد الباء .
ولو أطلقنا عنان القلم في ذلك لطال مداه ، واستعصى على الضبط . فلنرجع إلى ما جرى الكلام بسببه فنقول:
الميم حرف شفهي يجمع الناطق به شفتيه ، فوضعته العرب علما على الجمع ، فقالوا للواحد:«أنت » فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا:«أنتم » .
وقالوا للواحد الغائب:«هو » ، فإذا جاوزوه إلى الجمع ، قالوا:«هم » . وكذلك في المتصل يقولون:«ضربت ، وضربتم » ، و«إياك ، وإياكم » ،
و«إياه ، وإياهم » ونظائره ، نحو:«به وبهم » . ويقولون للشيء الأزرق ، أزرق ، فإذا اشتدت زرقته واجتمعت واستحكمت قالوا:«زرقم » ، ويقولون للكبير الاست:«سُتهُم » بوزن:قنفذ .
وتأمل الألفاظ التي فيها الميم ، كيف تجد الجمع معقودا بها ، مثل لم الشيء يلمه ، إذا جمعه ومنه:«لَمّ الله شَعَثَه » ، أي:جمع ما تفرق من أموره .
ومنه قوله:«دار لمومة » . أي:تلم الناس وتجمعهم .
ومنه:«الأكل اللَّمُّ » ، كما جاء في تفسيرها ، يأكل نصيبه ونصيب صاحبه . وأصله من «اللم » ، وهو الجمع ، كما يقال:«لفه يلُفُّه » .
ومنه:«ألم بالشيء » ، إذا قارب الاجتماع به والوصول إليه .
ومنه:«اللم » وهو مقاربة الاجتماع بالكبائر .
ومنه:«الملمة » وهي النازلة التي تصيب العبد .
ومنه:«اللمة » ، وهي الشعر الذي قد اجتمع ، وتقلص حتى جاوز شحمة الأذن ومنه:«لم الشيء » ، وما تصرف منها .
ومنه:«بدر التم »:إذا كمل واجتمع نوره .
ومنه:«التوأم » للولدين المجتمعين في بطن .
ومنه:«الأم » . و«أم الشيء »:أصله الذي تفرع منه . فهو الجامع له ، وبه سميت مكة:«أم القرى » ، والفاتحة:«أم القرآن » . واللوح المحفوظ:
«أم الكتاب » .
قال الجوهري:«أم الشيء » أصله ، ومكة «أم القرى »:و«أم مثواك » ، صاحبة منزلك . يعني التي تأوي إليها وتجتمع معها ، و«أم الدماغ »:الجلدة التي تجمع الدماغ ويقال لها:«أم الرأس » ، وقوله تعالى في الآيات المحكمات:{ هن أم الكتاب} [ آل عمران:7] .
و«الأمة »:الجماعة المتساوية في الخلقة ، أو الزمان ، أو اللسان ، قال تعالى:{ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم}
{ الأنعام:38} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها » .
ومنه:«الإمام » الذي يجتمع المقتدون به على اتباعه .
ومنه:«أم الشيء » يؤمه إذا جمع قصده وهمه إليه .
ومنه:«رم الشيء يرمه » ، إذا أصلحه وجمع متفرقه .
قيل:ومنه سمي «الرمان »:لاجتماع حبه وتضامه .
ومنه:«ضم الشيء يضمه »:إذا جمعه .
ومنه:«هم الإنسان ، وهمومه » ، وهي إرادته وعزائمه التي تجتمع في قلبه .
منه:قولهم للأسود:«أحم » وللفحمة السوداء:«حممة » ، و«حمم رأسه » ، إذا أسود بعد حلقه كله . هذا لأن السواد لون جامع للبصر ، لا يدعه يتفرق . ولهذا يجعل على عيني الضعيف البصر لوجع أو غيره شيء أسود ، من شعر أو خرقة ، ليجمع عليه بصره فتقوى القوة الباصرة .
وهذا باب طويل . فلنقتصر منه على هذا القدر .
وإذا علم هذا من شأن الميم ، فهم ألحقوها في آخر هذا الاسم «اللهم » الذي يسأل العبد ربه سبحانه به في كل حاجة . وكل حال ، إيذانا بجميع أسمائه تعالى وصفاته ، فإذا قال السائل:«اللهم إني أسألك » ، كأنه قال:أدعو الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى بأسمائه وصفاته . فأتى بالميم المؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم ، إيذانا بسؤاله تعالى بأسمائه كلها . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن ، فقال:اللهم إني عبدك ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك:أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري وجلاء حزني ، وذهاب همي وغمي ، إلا أذهب الله همه وغمه ، وأبدله مكانه فرحا ، قالوا:يا رسول الله ، أفلا نتعلمهن ؟ قال:بلى ، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن » .
فالداعي مندوب إلى أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته ، كما في الاسم الأعظم:«اللهم إني أسألك بأن لك الحمد ، لا إله إلا أنت ، الحنان المنان ، بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم » ، وهذه الكلمات تتضمن الأسماء الحسنى ، كما ذكر في غير هذا الموضع .
[ أقسام الدعاء]
والدعاء ثلاثة أقسام:
أحدها:أن تسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته . وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى:{ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [ الأعراف:180] .
والثاني:أن تسأله بحاجتك وفقرك ، وذلك فتقول:أنا العبد الفقير المسكين البائس الذليل المستجير ونحو ذلك .
والثالث:أن تسأل حاجتك ولا تذكر واحدا من الأمرين .
فالأول أكمل من الثاني والثاني أكمل من الثالث . فإذا جمع الدعاء الأمور الثلاثة كان أكمل .
وهذه عامة أدعية النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي الدعاء الذي علمه صديق الأمة رضي الله عنه ذكر الأقسام الثلاثة . فإنه قال في أوله:«اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا » ، وهذا حال السائل ، ثم قال:«وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت » وهذا حال المسئول ، ثم قال:«فاغفر لي » فذكر حاجته وختم الدعاء باسمين من الأسماء الحسنى تناسب المطلوب وتقتضيه .
وهذا القول الذي اخترناه جاء عن غير واحد من السلف . قال الحسن البصري:«اللهم:مجمع الدعاء » ، وقال أبو رجاء العطاردي:إن الميم في قوله «اللهم » فيها تسعة وتسعون اسما من أسماء الله تعالى ، وقال النضر بن شميل:من قال «اللهم » فقد دعا الله بجميع أسمائه .
وقد وجه طائفة هذا القول:بأن الميم هنا بمنزلة الواو الدالة على الجمع ، فإنها من مخرجها . فكأن الداعي بها يقول:«يا الله الذي اجتمعت له الأسماء الحسنى ، والصفات العليا » ، قال ولذلك شددت لتكون عوضا عن علامة الجمع . وهي الواو والنون في «مسلمون » ونحوه .
وعلى الطريقة التي ذكرناها وهي أن نفس الميم دالة على الجمع لا يحتاج إلى هذا .
بقي أن يقال:فهلا جمعوا بين «يا » وبين هذه الميم ، على المذهب الصحيح ؟
فالجواب:أن القياس يقتضي عدم دخول حرف النداء على هذا الاسم لمكان الألف واللام منه . وإنما احتملوا ذلك فيه لكثرة استعمالهم دعاءه ، واضطرارهم إليه ، واستغاثتهم به . فأما أن يحذفوا الألف واللام منه . وذلك لا يسوغ للزومهما ، وإما أن يتوصلوا إليه بأي ، وذلك لا يسوغ لأنها لا يتوصل بها إلا إلى نداء اسم الجنس المحلى بالألف واللام . كالرجل والرسول والنبي وأما في الأعلام فلا .
فخالفوا قياسهم في هذا الاسم لمكان الحاجة . فلما أدخلوا الميم المشددة في آخره عوضا عن جميع الأسماء ، جعلوها عوضا عن حرف النداء ، فلم يجمعوا بينهما ، والله أعلم .