التّفسير:
بيده كلّ شيء:
دار الكلام في الآيات السابقة حول المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يخصّون أنفسهم بالعزة وبالملك ،وكيف أنّهم كانوا يرون أنفسهم في غنى عن الإسلام .فنزلت هاتان الآيتان تفنّدان مزاعمهم الباطلة يقول تعالى: ( قل اللّهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء ) .
إنّ المالك الحقيقي للأشياء هو خالقها .وهو الذي يعطي لمن يشاء الملك والسلطان ،أو يسلبهما ممّن يشاء ،فهو الذي يعز ،وهو الذي يذل ،وهو القادر على كلّ هذه الأُمور ،( وتعزّ من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كلّ شيء قدير ) .
ولا حاجة للقول بأنّ مشيئة الله في هذه الآيات لا تعني أنّه يعطي بدون حساب ولا موجب ،أو يأخذ بدون حساب ولا موجب ،بل أنّ مشيئته مبنيّة على الحكمة والنظام ومصلحة عالم الخلق وعالم الإنسانية عموماً .وبناءاً على ذلك فإنّ أي عمل يقوم به إنّما هو خير عمل وأصحّه .
( بيدك الخير ) .
«خير » صيغة تفضيل يقصد بها تفضيل شيء على شيء ،والكلمة تطلق أيضاً على كلّ شيء حسن .بدون مفهوم التفضيل ،والظاهر من الآية مورد البحث أنها جاءت بالمعنى الثاني هذا ،أي إن مصدر كلّ خير بيده ومنه سبحانه .
وعبارة ( بيدك الخير ) تحصر كلّ الخير بيد الله من جهتين:
1الألف واللام في «الخير » هما للاستغراق .
2أنّ تقديم الخبر «بيدك » وتأخير المبتدأ «الخير » دليل على الحصر كما هو معلوم .فيكون المعنى: «كلّ الخير بيدك وحدك لا بيد غيرك » .
كذلك يستفاد من «بيدك الخير » أنّ الله هو منبع كلّ خير وسعادة فإذا أعزّ أحداً أو أذلّه ،أو أعطى السلطنة والحكم لأحد الناس أو سلبها منه فذلك قائم على العدل ،ولا شرّ فيه .فالخير للأشرار أن يكونوا في السجن ،والخير للأخيار أن يكونوا أحراراً .
وبعبارة أخرى: أنه لا وجود للشر في العالم ،ونحن الذين نقلب الخيرات إلى شرور ،فعندما تحصر الآية الخير بيده تعالى ولا تتحدث عن الشر إنّما هو بسبب أن الشر لا يصدر من ذاته المقدسة إطلاقاً .
( إنّك على كلّ شيء قدير ) .
هذه الآية جاءت دليلاً على الآية السابقة .أي ما دام الله ذا قدرة مطلقة ،فليس ثمّة ما يمنع أن يكون كلّ خير خاضعاً لمشيئته .
الحكومات الصالحة وغير الصالحة:
يُطرح هنا سؤال هام يقول: قد يستنتج بعضهم من هذه الآية أنّ من يصل إلى مركز الحكم ،أو يسقط منه ،فذلك بمشيئة الله .ومن هنا فلابدّ من قبول حكومات الجبّارين والظالمين في التاريخ مثل حكومات جنكيز خان وهتلر وغيرهما .بل أنّنا نقرأ في التاريخ أنّ «يزيد بن معاوية »تبريراً لحكمه الشائن الظالماستشهد بهذه الآية{[556]} .لذلك نرى في كتب التفسير توضيحات مختلفة بشأن هذه الشبهة .من ذلك أنّ الآية تختصّ بالحكومات الإلهيّة ،أو أنّها تقتصر على حكومة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التي أنهت حكم جبّاري قريش .
ولكن الآية تطرح في الواقع مفهوماً عامّاً يقضي أنّ جميع الحكومات الصالحة وغير الصالحة مؤطّرة بقانون مشيئة الله ،ولكن ينبغي أن نعلم أنّ الله قد أوجد مجموعة من الأسباب للتقدّم والنجاح في العالم ،وأنّ الاستفادة من تلك الأسباب هي نفسها مشيئة الله .وعليه فإنّ مشيئة الله هي الآثار المخلوقة في تلك الأسباب والعوامل .فإذا قام ظَلَمة وطغاةمثل جنكيز ويزيد وفرعونباستغلال أسباب النجاح ،وخضعت لهم شعوب ضعيفة وجبانة ،وتحمّلت حكمهم الشائن ،فذلك من نتائج أعمال تلك الشعوب وقد قيل: كيفما كنتم يولّى عليكم .
ولكن إذا كانت هذه الشعوب واعية ،وانتزعت تلك الأسباب والعوامل من أيدي الجبابرة وأعطتها بيد الصلحاء ،وأقامت حكومات عادلة ،فإن ذلك أيضاً نتيجةً لأعمالها ولطريقة استفادتها من تلك العوامل والأسباب الإلهيّة .
في الواقع ،أنّ الآية دعوة للأفراد والمجتمعات إلى اليقظة الدائمة والوعي واستفادة من عوامل النجاح والنصر ،لكي يشغلوا المواقع الحسّاسة قبل أن يستولي عليها أُناس غير صالحين .
خلاصة القول: إنّ مشيئة الله هي نفسها عالم الأسباب ،إنّما الاختلاف في كيفية استفادتنا من عالم الأسباب هذا .