/م23
وتدحض الآية الثالثة كلّ هذه الخيالات الباطلة وتقول: لاشكّ أنّ هؤلاء سوف يلاقون يوماً يجتمع فيه البشر أمام محكمة العدل الإلهي فيتسلّم كلّ فرد قائمة أعماله ،ويحصدون ناتج ما زرعوه ،ومهما يكن عقابهم فهم لا يُظلمون لأنّ ذلك هو حاصل أعمالهم ( فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفّيت كلّ نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون ) .
يتّضح من ( ما كسبت ) أنّ عقاب المرء وثوابه يوم القيامة وفوزه وخذلانه في العالم الآخر إنّما يرتبط بأعماله هو ،ولا يؤثّر فيه شيء آخر .هذه حقيقة أُشير إليها في كثير من الآيات الكريمة .
سؤالان:
1أيمكن للإنسان أن يختلق كذباً أو افتراءا وينسبه إلى الله ،ثمّ يتأثّر به هو ويعتوره الغرور إلى تلك الدرجة التي أشار إليها القرآن في الآيات السابقة بالنسبة لليهود ؟
ليس من العسير الردّ على هذا السؤال ،وذلك لأنّ قضية خداع النفس من القضايا التي يعترف بها علم النفس المعاصر .إنّ العقل الإنساني يسعى أحياناً إلى استغفال الضمير بأن يغيّر وجه الحقيقة في عين ضميره .كثيراً ما نشاهد أُناساً ملوّثين بالذنوب الكبيرة ،كالقتل والسرقة وأمثالها ،على الرغم من إدراكهم تماماً قبح تلك الأعمال يسعون لإظهار ضحاياهم بأنّهم كانوا يستحقّون ما أصابهم لكي يسبغوا هدوءاً كاذباً على ضمائرهم ،وكثيراً ما نرى المدمنين على المخدّرات يبرّرون فعالهم بأنّهم يستهدفون الفرار من مصائب الدنيا ومشاكلها .
ثمّ إنّ هذه الأكاذيب والافتراءات عن تفوّقهم العنصري التي حاكتها الأجيال السابقة من أهل الكتاب وصلت بالتدريج إلى الأجيال التالية التي لم تكن تعرف الكثير عن هذا الموضوعولم تعن بالبحث عن الحقيقةبصورة عقائد مسلّم بها .
2يمكن أن يقال إنّ الاعتقاد «بالعذاب لأيام معدودات » منتشر بيننا نحن المسلمين أيضاً ،لأنّنا نعتقد أنّ المسلمين لا يخلّدون في العذاب الإلهي ،إذ أنّ إيمانهم سوف ينجيهم أخيراً من العذاب .
ولكن ينبغي التوكيد هنا أنّنا لا يمكن أن نعتقد بأنّ المسلم المذنب والملوّث بأنواع الآثام يعذّب بضعة أيّام فقط ،بل أنّنا نعتقد أنّ عذاب هؤلاء يطول لسنوات وسنوات لا يعرف مداها إلاَّ الله ،إلاَّ أنّ عذابهم لا يكون أبدياً خالداً .وإذا وجد حقّاً بين المسلمين من يحسبون أنّهم بالاحتماء بالإسلام والإيمان والنبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمّة الأطهار يجوز لهم أن يرتكبوا ما يشاؤون من الذنوب ،ثمّ لا يصيبهم من العقاب سوى بضعة أيّام من العذاب ،فإنّهم على خطأ كبير ويجهلون تعاليم الإسلام وروح تشريعاته .
ثمّ إنّنا لا نعترف بأيّ امتياز خاصّ للمسلمين ،بل نعتقد أنّ كلّ أُمّة اتّبعت نبيّها في زمانها ثمّ أذنبت مشمولة بهذا القانون أيضاً ،بغضّ النظر عن عنصرها .أمّا اليهود فيخصّون أنفسهم بهذا الامتياز دون غيرهم بزعم تفوّقهم العنصري .وقد ردّ عليهم القرآن زعمهم الكاذب هذا في الآية 18 من سورة المائدة: ( بل أنتم بشر ممّن خلق ) .
سبب النّزول:
يذكر المفسّر المعروف «الطبرسي » في «مجمع البيان » سببين لنزول هاتين الآيتين يتناولان حقيقة واحدة .
1عندما فتحت مكّة ،بشّر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المسلمين بأنّ دولة الفرس ودولة الروم سرعان ما ستنضويان تحت لواء الإسلام .غير أنّ المنافقين الذين لم تكن قلوبهم قد استنارت بنور الإيمان ولم يدركوا روح الإسلام ،اعتبروا ذلك مبالغة ،وقالوا بدهشة: لم يقنع محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالمدينة ومكّة ،وهو يطمع الآن بفتح فارس والروم ،فنزلت الآية المذكورة .
2كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمسلمون مشغولون بحفر الخندق في أطراف المدينة ،وانتظم المسلمون في جماعات يحفرون بسرعة وجدّ لكي ينجزوا هذا الحصن الدفاعي قبل وصول جيش الأعداء .وفجأةً ظهرت صخرة كبيرة بيضاء صلدة وسط الخندق عجز المسلمون عن كسرها أو تحريكها .فجاء «سلمان » إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعرض عليه الأمر .فنزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى الخندق وتناول المعوَل من سلمان وأنزل ضربة شديدة بالصخرة ،فانبعث منها الشرر ،فصاح النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكبّراً تكبيرة الانتصار ،فردّد المسلمون التكبير وراح صوتهم يدوّي في كلّ مكان .ومرّة أخرى أنزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مِعوَله على الصخرة ،فانبعث الشرر وكسرت قطعة منها ،وارتفع صوت تكبير الانتصار من النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمسلمين بعده .وللمرّة الثالثة ارتفع مِعوَل النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونزل على الصخرة ،وللمرّة الثالثة انبعث الشرر من الضربة وأضاء ما حولها ،وتحطّمت الصخرة ،وارتفع صوت التكبير بين جنبات الخندق .
فقال سلمان: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله ،لقد رأيت شيئاً ما رأيت منك قط .فالتفت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى القوم وقال: رأيتم ما يقول سلمان ؟قالوا: نعم يا رسول الله .قال: ضربت ضربتي الأُولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنّها أنياب الكلاب ،فأخبرني جبرئيل أنّ أُمّتي ظاهرة عليها ،ثمّ ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم كأنّها أنياب الكلاب ،وأخبرني جبرئيل أنّ أُمّتي ظاهرة عليها ،ثمّ ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي قصور صنعاء كأنّها أنياب الكلاب ،وأخبرني جبرئيل أن أُمّتي ظاهرة عليها .فأبشروا ،فاستبشر المسلمون وحمدوا الله .أمّا المنافقون فقد عبسوا وقالوا بلهجة المعترض: أمل باطل ووعد مستحيل!هؤلاء يحفرون الخنادق خوفاً على أرواحهم من جيش صغير يخشون مواجهته ،ثمّ يحلمون فتح أعظم دول العالم .وعندئذ نزلت الآيات المذكورة .