في الآية التالية ولتأكيد حاكمية الله المطلقة على جميع الكائنات تضيف الآية:
1 ( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ...) .
وبهذا تذكر الآية بعض المصاديق البارزة على قدرة الله تعالى ،ومنها مسألة التغيير التدريجي للّيل والنهار ،بمعنى أن الليل يقصر مدّته في نصف من السنة ،وهو ما عُبّر عنه بدخوله في النهار ،بينما يطول الليل ويقصر النهار في النصف الثاني من السنة ،وهو دخول وولوج النهار في الليل .وكذلك إخراج الموجودات الحية من الميّتة وبالعكس ،وكذلك الرزق الكثير الذي يكون من نصيب بعض الأشخاص دون بعض ،كلّها من علائم قدرته المطلقة .
بحوث
«الولوج » بمعنى الدخول .والقصد من الآية هو هذا التغيير التدريجي الذي نراه بين الليل والنهار طوال السنة .هذا التغيير ناشئ عن انحراف محور الأرض عن مدارها بنحو 23 درجة واختلاف زاوية سقوط أشعّة الشمس عليها .لذلك نرى الشتاء في النصف الشمالي من خطّ الاستواء تطول أيّامه تدريجياً ،وتقصر لياليه تدريجياً ،حتّى أوائل الصيف ،حيث ينعكس التغيير فتقصر أيّامه وتطول لياليه حتّى أوائل الشتاء .أمّا في جنوب خطّ الاستواء فالتناظر يكون معكوساً .
وبناءاً على ذلك فإنّ الله يدخل الليل في النهار ،ويدخل النهار في الليل ،دائماً ،أي أنّه ينقص هذا ليزيد ذاك وبالعكس .
قد يقول قائل إنّ الليل والنهار في خطّ الاستواء الحقيقي وفي نقطتي القطبين في الشمال والجنوب متساويان وليس ثمّة أيّ تغيير فيهما ،فالليل والنهار في خطّ الاستواء متساويان ويمتدّ كلّ منهما اثنتي عشرة ساعة على امتداد السنة ،وفي القطبين يمتدّ الليل ستة أشهر ومثله النهار ،لذلك فإنّ الآية ليست عامّة .
في الجواب على هذا التساؤل نقول: إنّ خطّ الاستواء الحقيقي خطّ وهمي ،والناس عادةً يعيشون على طرفي الخط .كذلك الحال في القطبين فهما نقطتان وهميّتان ،وسكّان القطبينإن كان فيهما سكّانيعيشون في مناطق أوسع طبعاً من نقطة القطب الحقيقية ،وعليه فالاختلاف موجود في كلّ الحالات .
وقد يكون للآية معنى آخر بالإضافة إلى ما ذكر ،وهو أنّ الليل والنهار لا يحدثان فجأةً في الكرة الأرضية بسبب وجود طبقات «الجو » حولها .فالنهار يبدأ بالتدريج من الفجر وينتشر ،ويبدأ الليل من حمرة الأُفق الغربي والغسق ،ثمّ ينتشر الظلام حتّى يعمّ جميع الأرجاء .
إنّ للتدرّج في تغيير الليل والنهاربأيّ معنى كانآثاراً مفيدة في حياة الإنسان والكائنات الأخرى على الأرض .لأنّ نموّ النباتات وكثير من الحيوانات يتمّ في إطار نور الشمس وحرارتها التدريجيّة .فمن بداية الربيع حيث يزداد بالتدريج نور الشمس وحرارتها ،تطوي النباتات وكثير من الحيوانات كلّ يوم مرحلة جديدة من تكاملها .ولمّا كانت هذه الموجودات تحتاج بمرور الأيّام إلى مزيد من النور والحرارة ،فإنّ حاجتها هذه تلّبى عن طريق التغييرات التدريجيّة للّيل والنهار ،لتصل إلى نقطة تكاملها النهائيّة .
فلو كان الليل والنهار كما هو دائماً ،لاختلّ نموّ كثير من النباتات والحيوانات ،ولاختفت الفصول الأربعة التي تنشأ من اختلاف الليل والنهار ومن مقدار زاوية سقوط نور الشمس ،ولخسر الإنسان فوائد ذلك .
كذلك هي الحال إذا أخذنا بنظر الاعتبار المعنى الثاني في تفسير الآية أي أنّ حلول الليل والنهار تدريجي ،لا فجائي ،وأنّ هناك فترة بين الطلوعين تفصل بينهما ،فمن ذلك يتّضح أنّ هذا التدرّج في حلول الليل والنهار نعمة كبرى لسكنة الأرض ،لأنّهم يتعرّفون بالتدرج على الظلام أو الضياء ،وبذلك تتطابق قِواهم الجسمية وحياتهم الاجتماعية مع هذا التغيير ،وإلاَّ حدثت حتماً مشاكل لهم .
2( وتُخرِجُ الحيَّ مِن الميِّت وتُخرِجُ الميِّتَ مِن الحيّ ) .
إنّ معنى خروج «الحيّ » من «الميّت » هو ظهور الحياة من كائنات عديمة الحياة .فنحن نعلم أنّه في اليوم الذي استعدّت فيه الأرض لاستقبال الحياة ،ظهرت كائنات حيّة من كائنات عديمة الحياة .أضف إلى ذلك أنّ مواد لا حياة فيها تصبح باستمرار أجزاءً من خلايانا الحيّة وخلايا جميع الكائنات الحيّة في العالم ،وتتبدّل إلى مواد حيّة .
أمّا خروج «الميّت » من «الحيّ » فهو دائم الحدوث أمام أنظارنا .
إنّ الآيةفي الواقعإشارة إلى قانون التبادل الدائم بين الحياة والموت ،وهو أعمّ القوانين التي تحكمنا وأعقدها ،كما أنّه أروعها في الوقت نفسه .
لهذه الآية تفسير آخر أيضاًلا يتعارض مع التفسير السابقوهو مسألة الحياة والموت المعنويّين .فنحن كثيراً ما نرى أنّ بعض المؤمنينوهم الأحياء الحقيقيّونيخرجون من بعض الكافرينوهم الأموات الحقيقيّون.وقد يحدث العكس ،حين يخرج الكفار من المؤمن .
إنّ القرآن يعبّر عن الحياة والموت المعنويّين بالإيمان والكفر في كثير من آياته .
وبموجب هذا التفسير يكون القرآن قد ألغى قانون الوراثة الذي يعتبره بعض العلماء من قوانين الطبيعة الثابتة .فالإنسان يتميّز بحرّية الإرادة وليس مثل الكائنات غير الحيّة في الطبيعة التي تقع تحت تأثير مختلف العوامل وقوعاً إجبارياً .وهذا بذاته مظهر من مظاهر قدرة الله التي تغسل آثار الكفر في نفوس أبناء الكافرينأُولئك الذين يريدون حقّاً أن يكونوا مؤمنينويغسل آثار الإيمان من أبناء المؤمنينالذين يريدون حقّاً أن يكونوا كافرين.وهذا الاستقلال في الإرادة ،القادر على الانتصار ،حتّى في ظروف غير مؤاتية ،من مظاهر قدرة الله أيضاً .
هذا المعنى يرد في حديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،كما جاء في تفسير «الدرّ المنثور » عن سلمان الفارسي أنّه قال: إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فسّر الآية ( يخرج الحي من الميّت ...) فقال: أي أنّه يخرج المؤمن من صلب الكافر ،والكافر من صلب المؤمن .
3( وترزق من تشاء بغير حساب ) .
هذه الآية تعتبر من باب ذكر «العام » بعد «الخاص » ،إذ الآيات السابقة قد ذكرت نماذج من الرزق الإلهي ،أمّا هنا فالآية تشير إلى جميع النِعم على وجه العموم ،أي أنّ العزّة والحكم والحياة والموت ليست هي وحدها بيد الله ،بل بيده كلّ أنواع الرزق والنِعم أيضاً .
وتعبير ( بغير حساب ) يشير إلى أنّ بحر النِعم الإلهية من السعة والكبر بحيث إنّه مهما أعطى منه فلن ينقص منه شيء ولا حاجة به لضبط الحسابات .فالتسجيل في دفاتر الحساب من عادة ذوي الثروات الصغيرة المحدودة التي يخشى عليها من النفاذ والنقصان .فهؤلاء هم الذين يحسبون حسابهم قبل أن يهبوا لأحد شيئاً ،لئلاّ تتبدّد ثرواتهم .أمّا الله فلا يخشى النقص فيما عنده ،ولا أحد يحاسبه ،ولا حاجه له بالحساب .
يتّضح ممّا قلنا أنّ هذه الآية لا تتعارض مع الآيات التي تبيّن التقدير الإلهي وتطرح موضوع لياقة الأفراد وقابليّتهم ومسألة التدبير في الخلقة .
4ليس في الأمر إجبار
وهنا يُطرح سؤال آخر وهو: إننا نعلم أنّ الإنسان حرّ في كسب رزقه بغير إجبار ،وذلك بموجب قانون الخلق وحكم العقل ودعوة الأنبياء ،فكيف تقول هذه الآية أنّ كلّ هذه الأُمور بيد الله ؟
في الجواب نقول: إن المصدر الأوّل لعالم الخلق وجميع العطايا والإمكانات الموجودة عند الناس هو الله ،فهو الذي وضع جميع الوسائل في متناول الناس لبلوغ العزّة والسعادة .وهو الذي وضع في الكون تلك القوانين التي إذا لم يلتزمها الناس انحدروا إلى الذلّ والتعاسة .وعلى هذا الأساس يمكن إرجاع كلّ تلك الأُمور إليه ،وليس في ذلك أيّ تعارض مع حرّية إرادة البشر ،لأنّ الإنسان هو الذي يتصرّف بهذه القوانين والمواهب والقوى والطاقات تصرّفاً صحيحاً أو خاطئاً .