/م26
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَي مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} إن عملية إدخال الليل في النهار وإدخال النهار في الليل ،تشير إلى نقصان كل منهما لحساب زيادة الآخر ،وبالعكس ،حسب اختلاف الفصول ،فكأنّ أحدهما داخل في الآخر باعتبار أنه أخذ المساحة التي كان يحتلها هذا الآخر ،وهو من دلائل قدرته المطلقة التي تتصرف في خط الزمن من دون اختلال في التوازن ،بل هو التغيير الخاضع لنظام الكون القائم على أساس الحكمة والتدبير .وأمّا إخراج الحي من الميت ،فإنه يتمثل في الوضع الطبيعي في إخراج الأحياء من النبات والحيوان من الأرض الميتة العديمة الشعور .وقد ورد في هذه الآية تفسير آخر ،بأن يكون المراد من الميت الكافر والحي المؤمن ،باعتبار أن الله تعالى سمّى الإيمان حياة ونوراً والكفر ظلمة ،كما قال تعالى:{أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [ الأنعام: 122] ،ولكن الظاهر أن التفسير وارد مورد الاستيحاء لا مورد بيان المعنى من اللفظ ،فإن سياق الآية وارد في ما هو من مظهر القدرة من خلال ما يشتمل عليه من عجائب الخلق مما يناسب أن يكون متعرضاً للظاهرة في حركتها الكونية .
{وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فالله هو مصدر الرزق للناس وللموجودات كلها ،فهو الذي يعطيها حاجاتها التي يتوقف عليها وجودها وامتدادها ،من خلال ما أودعه في الأرض من أنواع العناصر الساكنة والمتحركة ،التي تهيّىء الفرص لإنتاج الحاجات وتوفير الشروط اللازمة لذلك ،من غير فرق بين الإنسان المؤمن والكافر ،بل إن ذلك يمتد إلى كل الموجودات التي تكفّل الله برزقهافي حاجاتها الوجوديةمنذ خلقها .
وهذه هي سنته الكونية التي أودعها في الكون ليكون منتجاً لكل الحاجات الوجودية من موقع المعنى الوجودي التكويني الذي تتحرك فيه الأشياء من خلال قوانينها الطبيعية التي فرضتها الإرادة الإلهية الغيبية ،من دون أن يعني ذلكفي سلبياته وإيجابياتهثواباً أو عقاباً ،أو تحليلاً أو تحريماً ،لأن القضية مرتبطة بذاتيات الحركة الوجودية في النظام الكوني .
الله يملك رزق العباد
وإذا كان الإنسان يحوّل عناصر الرزق المنفتحة على الخير في إمكاناتها الطبيعية إلى شرّ ،أو الحلال إلى حرام ،فإن ذلك لا يعني أن الله يرضى بالشر أو بالحرام في فعل الإنسان ،بل إنه يرفضه من خلال تشريعه الذي يحدد فيه للإنسان ما يفعله أو يتركه تبعاً للمصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء ،فنحن لا يمكن أن ننسب إلى الله الرزق الحرام من ناحية تشريعية ،لأن الله لم يخلق الرزق حراماً ،بل خلقه في نطاق قابليته للخير وللشر من الناحية التكوينية ،وأعطى الإنسان حريته في إدارة ذلك من موقعه الوجودي ليواجه مسؤولياته أمام الله في تحريكه الأمور في الاتجاه المرسوم .
وفي ضوء هذا ،نعرف أن الرزق خيرٌ كله ،ولكنه ككل وجود محدودٍ ،يحمل في داخله التنوع الذي يجعله متحركاً في أكثر من بُعدٍ من أبعاد الواقع في الإرادة الإنسانية .
ولعل من الواضحمن خلال ما ألمحنا إليهأن الرزق لا يختص بأي جانب من جوانب الحاجات الإنسانية ،بل يشمل الحاجات المادية والمعنوية معاً مما يتصل بحياة الإنسان الجسدية أو الروحية أو الاجتماعية أو الثقافية أو غير ذلك .أما كلمة{بِغَيْرِ حِسَابٍ} فقد فسرها الزجاج بأن المعنى «بغير تقتير ،كما يقال: ينفق بغير حساب ،لأن من عادة المقتر أن لا ينفق إلا بحساب .وقيل: معناه بغير مخافة نقصان لما عنده ،فإنه لا نهاية لمقدوراته ،فما يؤخذ منها لا ينقصها ولا هو على حساب جزء من كذا كما يعطي الواحد منا العشرة من المائة والمائة من الألف » .وقيلكما اختاره صاحب تفسير الميزانإن توصيف الرزق بكونه بغير حساب ،إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض ولا استحقاق ،لكون ما عندهم من استدعاء وطلب أو غير ذلك مملوكاً له تعالى محضاً ،فلا يقابل عطيته منهم شيء ،فلا حساب لرزقه تعالى .وأما كون نفي الحساب راجعاً إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود ولا مقدّر ،فيدفعه آيات القدر ،كقوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شيءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [ القمر: 49] ،وقوله:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْراً} [ الطلاق: 23] ،فالرزق منه تعالى عطية بلا عوض ،لكنه مقدر على ما يريده تعالى » .
ولعل الأقرب إلى جوّ الآية أن تكون الكلمة كناية عن عدم محدودية رزقه من حيث عدم محدودية ملكه ،فإنه يعطي كل موجود حاجاته مهما كثرت واتسعت ،فكلما تطورت حاجاته ازداد رزقه ،فلا حاجة به إلى الحساب ،لأنه شأن المحدود الذي قد تختل موارده باتساع الأمور والحاجات في عطائه ،أمّا اللهسبحانهفهو المطلق في ذاته والمطلق في غناه ،فلا ينفد ما عنده بالإنفاق والعطاء ،لأنه لا حدّ له في ملكه .
وفي ضوء ذلك ،قد تكون إيحاءات هذه الفقرة أن على العباد أن يلجأوا إلى الله في حاجاتهم ،فلا يتحرجوا من طلب أيّ شيء مهما ازدادت حاجاتهم ،لأن عطاءه لا حد له ولا حساب ،وربما يلتقي هذا المعنى بالمعنى الثاني وببعض إيحاءات المعنى الأول .ولا ينافي ذلك تقدير الله للأمورومنها الرزق،فإن تقدير كل شيء بحسبه من خلال طبيعة الحاجات في تطوراتها تبعاً لتطور الحياة والإنسان ،فهو الذي يقدّر رزقه بحسب الحاجات المتطورة والمتغيرة ،ليلاحق ذلك بحكمته ورحمته .أما ما ذكره العلامة الطباطبائي ،فإننا لا نجد له وجهاً ،لأن مسألة العوضية ليست مطروحةً في الجانب العقيدي ،ولا في المدلول السياقي ،إذ لا معنى للحديث عن أن الله يعطي الإنسان بدون عوض ولا استحقاق ،لأنها من بديهيات الأمور ،من حيث إن الله هو الخالق والرازق وإن الإنسان لا يملك شيئاً ذاتياً أمام الله ،ولكن الحديث هو عن سعة عطاء الله وشمولية كرمه وعدم نفاد رزقه .
وربما نستوحي هذا المعنى من الآية الكريمة{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ الزمر: 10] ،حيث إن المقصود منها بلا حصر ،لأن الله يعطيهم ما لا يعطي أحداً من ثوابه في مقابل الطاعات التي جعل الله لها ثواباً معيناً ؛والله العالم .
وهناك نقطةٌ تفسيريةٌ لا بد من إيضاحها ،وهي أن الآية تحدثت عن كل هذه الظواهر بأسلوب يدعو إلى أن يتمثل الإنسان ذلك في دعاءٍ خاشع يتوجه فيه إلى الله ،في توجّه المؤمن الذي يناجي ربّه بالتأكيد على إيمانه بعظمة القدرة من خلال عظمة الحق .فكيف نفهم ذلك ؟
الدعاء في خط التربية الإسلامية الرسالية
إن هذه الآيةفي عقيدتناتمثل نموذجاً من نماذج الخط الإسلامي في الدعاء الذي يستهدف تعميق الفكر العقيدي والرسالي في النفس بتقرير تفاصيل العقيدة والأخلاق والمسؤوليات بأسلوب الدعاء ،فهو يتحدث عن صفات الله وعن البرامج العملية الأخلاقية ليختزنها الإنسان في مشاعره كما يختزنها في فكره ،فإن للدعاء الإسلامي جانباً يتصل بالشعور من جهة وبالفكر من جهة أخرى .وبهذا لا ينعزل الإنسان عن فكره العملي وحياته المتحركة ،بل يدخل في عمقها بأسلوب روحي فريد ...
وهذه الآية هي نموذج حيّ لهذا الأسلوب ،فإن انطلاق هذه الصفات بأسلوب الدعاء ،يوحي للإنسان بالانفتاح على هذه الحقيقة كما لو كانت ماثلة أمامه في جوّ شعوري رائع ينطلق من موقع الاعتراف الإنساني الذي يشعر الإنسان معه بشعورين مختلفين ،ولكنهما يكمّلان بعضهما بعضاً ،فهناك الشعور بالانسحاق أمام الألوهية المطلقة التي تملك الملك كله وتتصرف فيه بالإعطاء والمنع ،وتملك الكون فتغيّره على حسب الحكمة ،وتملك حاجة الإنسان فترزقه بغير حساب من دون أن تكون لأيّة قوة هناك أيّ دخل في ذلك كله ،وهناك الشعور بالأمن والطمأنينة والقوة عندما يعيش الإنسان في ظلال هذه الألوهية منسجماً مع ينبوع العطاء المتدفق منها بدون حدود في آفاق الرحمة الألوهية المطلقة .
وقد نحتاج إلى استيحاء هذا الأسلوب في التربية والتوجيه ،وذلك بالتأكيد على المؤمنين أن يتمثلوا تفاصيل العقيدة في صفات الله التي ترتبط بها حياتهم باختيار الأدعية المناسبة التي تثير في داخلهم الشعور بالامتلاء الروحي والفكري إلى جانب الإحساس بالأمان في ظل الإيمان بالله من خلال ذلك .وبذلك يمتزج جانب الروح بالفكر والممارسة في حركة العقيدة داخل النفس الإنسانية .
الاستخدام السيىء للآية من الظالمين
وهناك نقطة أخرى لا بد من التأكيد عليها ،وهي أن هناك فهماً خاطئاً للآية قد يستخدمه الحكام الظالمون الذين ملكوا السلطة بأساليبهم ووسائلهم المنحرفة ،للإيحاء بأنهم يمثلون القيمة الخيّرة عند الله ،لأن الله آتاهم الملك ،فهو حق شرعي لهم ،باعتبار أن الله هو الذي يمنح الشرعية لمواقع عباده ،وذلك من خلال هذه الآية .وقد روي أن يزيد بن معاوية استشهد بهذه الآية في الردّ على الإمام علي بن الحسين زين العابدين( ع ) في حواره معه ،فقد جاء في الإرشاد للمفيد نقلاً عن كلام يزيد: «وأما قوله ،أي علي بن الحسينإنه خير مني فلعله لم يقرأ هذه الآية{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الآية[ 8] وقد جاء في الكافي عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد اللهجعفر الصادق ( ع ) قال: قلت له:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ} أليس قد أتى الله بني أمية الملك ؟قال: ليس حيث تذهب ،إن الله عز وجل آتانا الملك وأخذته بنو أمية ،بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر ،فليس هو للذي أخذه ..» .
وقد أشرنا في ما قدمناه من حديث التفسير إلى أن الآية تتجه إلى تأكيد الفكرة التي تربط الواقع الخارجي في حياة الإنسان في الماضي والحاضر ،بالله في الدائرة التكوينية التي تتحرك فيها الأشياء من حيث ارتباطها بأسبابها الطبيعية في وجودها العيني والحركي ،فقد تكون النتيجة خيراً عندما تكون الأسباب الموجودة منتجةً للخير ،وقد تكون شرّاً عندما تلتقي بأسباب الشر ،وليست واردة في مجال الحديث عن اعتبار الواقع صورةً للإرادة الإلهية التشريعية التي تعبّر عن شرعية الواقع من حيث كونه مظهراً لرضا الله ،فقد أطلق الله للناس أن يأخذوا بالعدل ،وأن يكونوا مع العادلين ،وأن يكونوا مع الساعين نحو إقامة العدل وإسقاط الظلم في الأرض ،وجعل المسألة تابعةً لاختيارهم في حركة المسؤولية ،لأن حكمته اقتضت أن يمارس الإنسان القضايا باختياره وإرادته{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [ الزلزلة:78] ،وهذا هو ميزان الشرعية في تقويم الواقع .
ولكن الناس تركوا هذا الخط الإلهي ،واندفعوا نحو الاختيار السيىء الذي يتناسب مع أطماعهم وشهواتهم ،فخذلوا الحق ،ونصروا الباطل ،وأخذوا بالأسباب الواقعية التي جعلها الله بين أيديهمفي ساحة الواقع،فاستعملوها للشر بدلاً من الخير ،فكانت النتائج أن الظالمين وصلوا إلى الملك من خلال الوسائل الإلهية التكوينية للنجاح ،بقطع النظر عن المضمون ،فكان أن حصلوا على الملك من إيتاء الله لهم من خلال الأسباب الطبيعية ،لأن الله أجرى الأمور في الكون على أساس حصول المسبب عند إيجاد السبب ،ولكنه لا يمثل إرادة الله في المعنى الشرعي الذي يحبه ويرضاه ،بل هو مناف لها ومنحرف عنها ،ولا يعني هذا عجزاً في الخالق وقدرةً لدى المخلوق ،ولكنه القانون الطبيعي الذي صنعه الله للوجود ،وجعل للإنسان أن يوجِّهه للخير باختياره ،فوجَّهه للشر بسوء اختياره عصياناً وانحرافاً ،وسيجزيه الله العقاب على ذلك كله .
وقد روى السيد ابن طاوس ،كما في تفسير الميزانأن السيدة زينب بنت علي( ع ) ردّت على يزيد منطقه ،فقالت في خطابها له: أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى ،أن بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة ،وأن ذلك لعظم خطرك عنده ،فشمخت بأنفك ،ونظرت في عطفك جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ،والأمور متسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ،مهلاً مهلاً ،أنسيت قول الله:{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [ آل عمران: 178] .
فإن استشهادها بهذه الآية يمثل الفكرة بأن الله لا يترك للكافرين حريتهم في العبث بالقيم الخيّرة ،من خلال الرضا بذلك ،تقويماً لهم في ميزان القيمة الإيجابية للذات في أفعالها ،بل إن حكمته اقتضت أن يتركهم لاختياراتهم السيّئة لإقامة الحجة عليهم ،فيزدادوا إثماً بإفاضة النعم عليهم مع استمرارهم في هذا الاختيار .
وفي ضوء ذلك ،كان هذا الخط التكويني الذي يربط الأشياء بأسبابها ،يجعلنا نفكركعاملين في حقل التغيير على أساس الدعوة إلى الإسلامبأن نهيّىء الظروف الموضوعية للانتصار في ساحة الصراع ،لنحققبذلكالنتائج الكبيرة ،حتى تلتقي لدينا الإرادة التكوينية في سنن الله بالإرادة التشريعية في تعاليمه .
إن الله قد فتح لنا النافذة التي نطل بها على النصر ،فعلينا أن نعمل على أن نطل منها على الساحة التي تحقق لنا الوصول إلى أهدافنا الكبرى .