/م28
وقد جاءت الآية الأولى من هذه الآيات لتعبّر عن هذه الحقيقة بأسلوب حاسم يضع القضية أمام علاقة الإنسان بالله بين أن تكون أو لا تكون ،من دون أن يكون هناك حلّ وسط ،ما يعطي القضية أهميتها الكبرى في حساب الإيمان .ثم تصاعد الأسلوب في الإيحاء للإنسان بأن عليه أن لا يسترخي فيشعر بالأمن والطمأنينة في إحسان الله إليه وترك عقوبته في الدنيا ،لأنّ ذلك لا يمثل الرضا والتسامح في ما يتمرد فيه الإنسان على الله ،بل يجب أن يحذر ،فإن الله يحذر المنحرفين عن الخط المستقيم من نفسه ،فقد يفاجئهم العذاب من حيث لا يشعرون .
{لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ} الذين عاشوا الإيمان عقيدةً والتزموه عملاً ،وانفتحوا عليه روحاً وعقلاً وحركة حياة ،فكان الله أحب إليهم من أنفسهم ومن كل شيء آخر{الْكَافِرِينَ} الذين جحدوا الله في وجوده وتوحيده ورسله ورسالاته واتبعوا الشيطان في خططه وحبائله ووساوسه ،فكانت الحياة في وجدانهم الفرصة الأولى والأخيرة للّهو وللعبث والتمرّد على الله وعلى رسوله والانحراف عن القيم الأصيلة في الإنسان الواعي ،وكانت دروبهم دروب المتاهات الصحراوية التي لا تأوي إلى ظل ولا تسكن إلى واحة ،{أَوْلِيَآءَ} يلقون إليهم بالمودة ويمحضونهم الإخلاص ،ويتبعونهم في أوامرهم ونواهيهم ،ويتحركون معهم في خططهم وتعاليمهم ،ويعادون من عادوا ويوالون من والوا ،فيكونون طوع إرادتهم في السرّاء والضرّاء ،حتى يذوبوا فيهم وفي كفرهم وانحرافهم عن الصراط المستقيم ،ويفضلونهم على المؤمنين ،فلا ينفتحوا عليهم{مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ،بل لا بد لهم من تفضيل المؤمنين على غيرهم في كل الأمور ،فإن ذلك هو علامة الإيمان الحق الذي يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله .
ذلك هو علامة الإيمان الحق الذي يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله .
{وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي يوالي الكافرين من دون المؤمنين{فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيء} فلا علاقة بينه وبين الله في دائرة ولاية الله تعالى ،فإن الله بريء منه ،فلا يعتبره من أوليائه ما دام ولياً لأعدائه وعدوّاً لأوليائه ،وتلك هي قمة السقوط والشقاء ،لأن ذلك يفصله عن الأساس الذي انطلقت منه حياته ،وامتد به وجوده .
أسلوب التقية في الخط الإسلامي الحركي
{إِلاَ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} وذلك بإظهار الانسجام معهم في الالتزام بما يريدونه ويفرضونه من أوامر ونواهي وتعليمات وأوضاع ،والإيحاء لهم بأنهم معهم في خطهم الفكري والعملي ،وذلك تحت ضغط التهديد الخفي أو المعلن ،والتعسف السلطويّ الذي يمارسونه ضدّهم في أساليب الظلم والعدوان التي يوجهها المستكبرون ضد المستضعفين ،فإن الله قد رخّص للمستضعفين الذين{لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}
[ النساء: 98] ،أن يدرسوا ظروفهم الموضوعية في عملية مقارنة بين واقعهم الضعيف وموقع الأقوياء الظالمين القوي ،ليتعرفوا المواقف التي تفرض عليهم إظهار الالتزام بما يريده المستكبرون ،مع الرفض لهم في العمق الخفي من شخصيتهم ،حفاظاً على وجودهم وعلى حريتهم في الحركة في الجوانب الآخرى ،وليتعرفوا المواقع التي يملكون فيها التخفف من الضغوط والابتعاد عن مجال التعسف ،واكتشاف الثغرات التي تتيح لهم مجال الهرب ،ليعيشوا التزاماتهم ،ويهربوا من التزامات المستكبرين ،فإن الله لا يريد أن يجعل الناس المستضعفين في حرج من أمرهم ولا يفرض عليهم أن يتحملوا عناء الضغوط التي لا يتحملونها جسدياً أو معنوياً ،فإنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر .
وفي ضوء هذا ،نعرف أن التقية ليست سقوطاً تحت تأثير المستكبرين والتزاماً بأوضاعهم وانسجاماً مع انحرافاتهم ،بحيث ينتقلون من الهدى إلى الضلال ،بل هي عمليةٌ ظاهريةٌ شكليةٌ مرحليةٌ تنطلق من المرونة العملية في مواجهة التحديات الكبرى التي تطبق على الإنسان الضعيف بحيث تتحدى وجوده أو ما يمثل المصادرة لحريته الإنسانية في وجوده ،ويبقى يعيش في نفسه الرفض للظلم وأهله ،وللكفر ودعاته ،وللاستكبار وقادته ،رفضاً يثير في نفسه المواجهة النفسية العقلية التي تكبر في عقله لتعود حيّةً فاعلة في حركته عندما تتبدل الظروف وتتغير المواقف والمواقع .
إنها الأسلوب الواقعي العملي في حماية الموقف الكبير على مستوى الهدف على حساب الموقف الصغير في حركة الوسيلة ،وهذا أسلوبٌ إنسانيٌ عقلائيٌ يرخص للإنسان الوقوع في المفسدة المهمّة إذا عارضتها المصلحة الأهم ،على قاعدة التزاحم التي تقرر تقديم الأهم في الحسابات العملية وإسقاط المهم وتجميده في مرحلة معينة .
وفي هذا الجو ،نعرف أن التقية تتحرك حيث يشتد الضغط ليصل إلى المستوى الأعلى ،وحيث تكبر المصلحة في موقع الأهمية ،وتتجمد حيث تكون الأمور في مستوى عاديٍّ لا يمثل أيّة مشكلةٍ كبيرةٍ أو أيَّة أهميّة عظمى ،من دون فرق بين أن تكون التقيّة في العقيدة أو الشريعة أو في الموقف السياسي أو الاجتماعي أو نحو ذلك .
لكن الرخصة في التقية لا تعني فقدان الموقف الواضح الصريح المتحدي المنفتح على التضحية ،للشرعية ،فإن الله قد رخص للناس أن يأخذوا بها ،كما جعل لهم الحرية في الأخذ بموقف القوة والتحدي في مواجهة الأعداء ووعدهم الثواب الكبير على ذلك ،لدلالته على مدى الإخلاص لله ورسوله ولدينه في الالتزام بالقضايا الكبرى .
وقد تُمثِّل التقيّة الموقف المتنوع ،فقد مارسها عمار بن ياسر حين نطق بكلمة الكفر ،فأنزل الله فيه{إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}
[ النحل: 106] ،وفي موقف أبويه ياسر وسمية اللذين استشهدا تحت التعذيب وصبرا فكان النبي ( ص ) يمر عليهما ويقول: صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة .وهكذا نجد أن الإسلام يستجيب لرغبة الإنسان المسلم بالشهادة كما يستجيب لرغبته بالحياة .
ولا بد للإنسان المستضعف في هذا المجال من أن يدرسدائماًفي موقفه العملي بين الأخذ بالرخصة أو الاندفاع في التحدي ،مصلحة الأمة أو المجتمع أو الدين ،لأن التحدي قد يؤدي إلى مشاكل كبيرة وسلبيات كثيرة على المصلحة العليا ،وربما كانت التقية سبباً في ذلك عندما توحي بالسقوط الكبير للموقف الرسالي ،وللأمة في مرحلتها الحساسة ،ليراعي ذلك بشكل واعٍ ،لأن التقية تمثل الموضوع المتحرك في ساحة المصالح والمفاسد ،ولا تمثل الموضوع الثابت الذي يخضع لحكم واحد وخط واحد ،بل إنه يتغير بتغير الظروف والأوضاع ومستوى تأثيره على المصلحة العليا في القضايا الكبرى سلباً أو إيجاباً ،فإذا كان الإقدام على التحدي يؤدّي إلى إبادةٍ للأمة أو للمعارضة أو للخط ،فإن التقية هي الخيار الذي يجب على الناس أن يلتزموه ،وإذا لم تكن التقية تؤدّي إلى السقوط الكبير ،فإن المواجهة هي الموقف الذي يجب عليهم أن يقفوه ،وإذا لم تكن المسألة بهذا المستوى ،فإنهم مخيرون بين التقية والتحدي حتى الشهادة ،ولا بد لولي الأمر من أن يتخذ الموقف المناسب في وعيه للواقع وتحريكه الأمة باتجاه الحركة الواعية السليمة .
التقية في الخط الواقعي المشروع
وقد جاء استثناء التقيّة التي تعبّر عن حالة الاضطرار التي لا يكون الانسجام فيها مع الخط عملاً واقعياً ،ليدلّل على أن الموالاة لا تعبّر عما في الداخل من العاطفة الحميمة ،بل تتجسد في الموقف العملي الذي يتمثّل في الالتزام بالمودّة ،ليكون الاستثناء ،متصلاً أو منقطعاً ،منسجماً مع جوّ المستثنى منه .
وفي هذا الاستثناء نعرف شرعيّة التقيّة في ظروفها الموضوعية التي يخضع لها الإنسان من خلال الضغوط الصعبة التي تشل حياته فتعرّضها للخطر ،من دون فرق بين أن يكون الجوّ هو جوّ الكفر أو جوّ الانحراف عن الإسلام ضمن الصيغة الإسلامية ،لأن القضية هي قضية إعطاء المجال للإنسان لكي يحافظ على نفسه أو على قضيته بالأسلوب الذي يوحي للآخرين بأنّه معهم ،خلافاً لما يعتقد من فكر أو سلوك .
وقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن أئمة أهل البيت ( ع ) في الحثّ على التقيّة للمحافظة على خط المعارضة للانحراف ،من وجهة النظر الإسلامية التي يرونها ممثّلة للخط الإسلامي المستقيم ،وذلك من خلال الضغوط الشديدة التي كان يمارسها الحكم الأموي والعباسي ضدّهم ،ليمنعهم من الامتداد في مسيرتهم ،وقد شنّع بعض المسلمين على الشيعة الإماميّة في ذلك ،حتى نسبوا إليهم ما لم يقولوه في هذا المجال ،في سعة موارد التقية وطبيعتها ،ولكنهم لو بحثوا عن ذلك في كتب الشيعة التي عرضت للتقيّة بإسهاب وتحقيق ،لعرفوا أين تبدأ وأين تنتهي بعيداً عن أجواء الحقد والضوضاء .
{وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} من الانحراف عن صراطه المستقيم في رفض ولاية الكافرين والالتزام بولاية المؤمنين ،فلا تستهينوا بعقابه ،ولا تستسلموا لإمهاله لكم وعدم الأخذ بالعقاب الفعلي ،لأنه قد يمهل ولكنه لا يهمل ،فإذا كان هو الرحمن الرحيم ،فإنه القوي العزيز الجبار .
{وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} وهكذا ينطلق الإيحاء باليوم الآخر الذي يرجع فيه الناس إلى الله ،ليكون إيحاءً بالحذر الذي يتحرك في خط الالتزام في طريق الحصول على رضا الله .
التقيّة ليست وسيلة لتجاوز حدود الله
ويمتد الأسلوب القرآني الذي يحشد أمام الإنسان الأجواء الروحيّة التي يشعر معها بأنّ عين الله تحدّق فيه وهو يخفي في نفسه الفكر السيّء والشعور الشرير ،وتنظر إليه ،وهو يبديه ،لأن الله يلاحق الإنسان في خلواته ،فهو يعلم كل شيء يصدر من الإنسان ،فكراً وعملاً ظاهراً أو خفياً ،ولا يقف علمه عند حدود الإنسان ،فإنه يعلم ما في السماوات والأرض ،فكل شيء مكشوف لديه ،وكل شيء حاضر عنده ،فكيف يمكن للإنسان ،الذي يعي هذه الحقيقة وعياً وجدانياً عميقاً ،أن يستسلم للغفلة ،وأن يلعب لعبة اللفّ والدوران والاستخفاء بعلاقاته المحرّمة وصداقاته المنحرفة التي يحاول أن يعطيها صفة الاستقامة والإخلاص ،وهو يعلم أن الله محيط بكلّ شيء في علمه وقدرته ،وأنّ المصير إليه ،مهما امتدت الحياة به ،ومهما استسلمت خطواته للانحراف .
وربما كان في هذا الحديث تذكيرٌ للذين يمارسون التقية ،بأن عليهم أن لا يتخذوا من الرخصة فيها وسيلةً لتجاوز الحدود المرسومة في دائرتها ،فقد تجتذب أوضاع المستكبرين والكافرين مطامعهم وأحلامهم فيندفعون في السير معهم بأكثر مما تفرضه القضية المرحلية ،فيؤدي بهم ذلك إلى الانحراف .وهذا ما لا بد للإنسان من الانتباه إليه حتى لا يقع في أحابيلهم وأساليبهم الإغرائية ،وذلك بأن يأخذ من تذكره لرقابة الله عليه وعلمه المطلق بالسرّ والعلن ،وسيلةً لتقوية إرادته في موقف الحق .
وهذا ما نلاحظه في الكثير من الشخصيات والأحزاب والحركات السياسية ،التي تحمل الكثير من الشعارات الكبيرة على مستوى قضايا الحرية والعدالة ،فتنطلقبفعل الظروف المعقدةلتقديم التنازلات للمستكبرين من مواقفها والتزاماتها باسم المرونة الحركية والواقعية السياسية التي قد تلتقي مع مضمون التقية ،فتستريح للنتائج الإيجابية في الحصول على المغريات ،ويمتد بها ذلك إلى التحوّل نحو المواقع المنحرفة البعيدة عن الخط المستقيم .
مشروعية التقية في مواجهة الاستكبار
إننا نجد في التوجه القرآني لتشريع التقية في المواقف الصعبة حركةً في الواقعية الإسلامية في السلوك العملي في مواجهة التحديات على مستوى التعامل مع خط الاستكبار العالمي الذي قد يطبق بالضغوط الهائلة على مواقع التحرك الإسلامي للإجهاز عليها وعلى قيادتها ،ولإسقاط جمهورها ومحاصرة مواقعها ،بما يملكه من وسائل الضغط السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري والثقافي ،مما قد لا يسمح بالتوازن في المواقف الاعتيادية ،أو لا يتيح الفرصة للمواجهة المباشرة ،بحيث لا تكون الشهادة حلاً عملياً للوصول إلى النتائج الحاسمة ،الأمر الذي قد يبرر للقيادات الواعية أن يأخذوا بالرخصة لإبداء بعض المرونة السياسية العملية في خط التقية ،للتخفف من الضغط الهائل من أجل الاستعداد للمواجهة المستقبلية على أساس المتغيرات الجزئية أو الكلية للظروف الموضوعية التي تؤذن بالتحرك الجديد في الخطة الجديدة للمواجهة الحاسمة في طريق تحقيق الأهداف .
وهذا ما يوحي لنا بالفكرة التي تؤكد واقعية الإسلام في حركة الإنسان أمام التحديات ،بحيث تكفل له الاستمرار في أسلوب المرونة ،والثبات في خط المبدأ ،لأن القضية في شرعية الأسلوب ،مرتبطةٌ بعلاقة القضية بالهدف ،فهي التي تمنحه السلب في المورد السلبي للنتائج ،والإيجاب في المورد الإيجابي لها ،وليست جامدةً في الموقف الواحد الذي قد يحصر الإنسان في زاوية مغلقة ،أو يدخله في دوّامةٍ لا يعرف كيف يخرج منها في قضاياه الكبيرة أو الصغيرة .
وهذا هو وحي التقية في عطائها الإيجابي في حياة الإنسان وتحركاته في ضرورات الحفاظ على الحياة للذات وللخط وللدين وللمذهب وللواقع .