{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا ان تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير28 قل إن تخفوا ما في صدوركم او تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شئ قدير29 يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد30}
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الملك كله بيد الله سبحانه وتعالى ،وانه هو الذي يعطي بعض عباده سلطانا ،وهو الذي ينزع السلطان من أيديهم عن لم يحسنوا القيام عليه ؛وفي هذه الآية يبين سبحانه انه لا يصح للمؤمن ان يستعين بسلطان غير المؤمن لما يراه من قوة سلطان غير المؤمن ،فإن الملك بيد الله ،قد يديل سبحانه من دولة الشرك والكفر{[488]} ،ويكون لله ولرسوله الكلمة العليا ؛فكان الآيات السابقة مقدمة ،وهذه الآية نتيجة ؛أي انه إذا كان الملك لله سبحانه ،وهو مالك الملك ،فلا يسوغ لمؤمن ان يدخل في سلطان غير مؤمن وولايته ؛لأنه بذلك يخرج من ولاية الله مالك الملك إلى ولاية كافر أعير الملك ،والعارية مستردة لصاحبها في أي وقت ،وهو الحق سبحانه الذي لا سلطان فوق سلطانه ؛ولذا قال سبحانه:
{ ولا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين}أولياء جمع ولى ،وهو من الولاء .وأصل هذه الكلمة بينها الأصفهاني في مفرداته ،فقال:"الولاء والتوالي:أن يحصل شيئان حصولا ليس بينهما ما ليس منهما ،ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ،ومن حيث النسبة ،ومن حيث الدين ،ومن حيث الصداقة والنصرة ،ولاعتقاد .والولاية( بكسر بالواو )النصرة .والولاية( بالفتح )تولى المر .وقيل الولاية والولاية واحدة نحو الدلالة والدلالة".وعلى ذلك تكون كلمة ولى تطلق بمعنى الصديق وبمعنى النصير ،وبمعنى من يتولى امر غيره .وما المراد بها هنا ؟الظاهر ان المراد هو من يتولى امر غيره ،فمعنى{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين}نهى المؤمنين وسلطانهم ؛فإن على المؤمنين ان يكونوا لأنفسهم دولة وولاية تظلهم ،ولا يكون أحد منهم في ولاية غيرهم والدليل على ان أولياء هنا معناها متولون الأمر قوله تعالى:{ من دون المؤمنين}فإن دون هنا بمعنى غير ،وهذا يومئ إلى ترك ولاية المؤمنين ليكونوا في ولاية غيرهم ؛فالمعنى إذن انه لا يجوز لطائفة من المؤمنين ان يكونوا في ولاية غير المؤمنين .وهنا إشارة بلاغية رائعة في قوله تعالى:{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء}وفي وقله:{ من دون المؤمنين} ؛فإنه من المقررات البيانية ان اللفظ إذا ‘عيد معرفا ب"أل"كان الثاني هو عين الأول ،فإذا قلت:خاطبت رجلا ، فأفهمت الرجل حقيقة موقفه ،كان الثاني عين الأول ،فتكرار المؤمنين بالتعريف الذين يدخلون ولاية غيرهم يتركون أنفسهم ،ويتخذون من عدوهم نكاية لأنفسهم .
وإن النهي عهن تولي المؤمنين لغير المؤمنين غير معلل هنا صراحة ،وإن كان قوله تعالى:{ من دون المؤمنين}يشير إلى ان تولي المؤمنين لغيرهم يكون نكاية لأنفسهم ،وفي آية أخرى كان النهي معللا صريحا ؛فقد قال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم . . .51}[ المائدة] .وقال تعالى:{ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير73}[ الأنفال] .
ففي هاتين الآيتين تعليل صريح للنهي عن ان يكون المؤمنون او بعضهم في ولاية غير المؤمنين ،وأن تكون سيوفهم وكل قوتهم لغير المؤمنين . والذي يستفاد من هاتين الآيتين ان السبب في انه لا يجوز للمؤمنين ان يتولوا غير المؤمنين بأن يكونوا في ولايتهم ،يتكون من ثلاثة أمور:
أولها:أن غير المؤمنين لا يمكن ان يرعوا حقوق المؤمنين الذين يخضعون للأمم الأوروبية كمسلمي يوغسلافيا مع قيامهم بحق إقليمهم في نصرته لا يكادون يستمتعون بأي حق سياسي ،ولا يتولون أعمالا إدارية إلا في صغير الأمور .
وثانيهما:أن الذي يكون في ولاية غير المسلمين تكون نصرته وقوته لغير المسلمين ؛ولذا قال سبحانه:{ ومن يتولهم منكم فإنه منهم}إذ تكون كل قوته و كل نشاطه الإنساني و الاجتماعي لهم ، وليس منه شيء .
و ثالثهما:أن المسلمين الذين يكونون في ولاية غيرهم يفتنونفي دينهم ،ولو من قبيل العدوى وعدم تنفيذ أحكام الإسلام في الدولة ،وفي ذلك فساد أي فساد ؛ولذا قال تعالى:{ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}أي إلا تمتنعوا عن الدخول في ولاية غير المسلمين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير .
هذا ،ويجب التنبيه إلى ان تولي المؤمنين لغيرهم ليس معناه المحبة ،فإن بر المؤمن لغير المؤمن واجب عن تحقق السبب الموجب للبر ؛فقد قال تعالى:{ ولا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين8إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم ان تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون9}[ الممتحنة] .
{ ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم ثقاة}أي من يدخل في ولاية الكافرين ، ويترك ولاية المؤمنين فقد قطع صلته بالله سبحانه وتعالى قطعا تاما ؛لأن ولاية المؤمنين هي ولاية الله تعالى ؛وهذا معنى قوله تعالى:{ ومن يفعل ذلك فليس من الله فيس شئ} .وقد أولها بعض العلماء على حذف مضاف ،والمعنى:فليس من ولاية الله في شئ ،وبعضهم قال:فليس من الصلة بالله في شئ ،ولكن ولكن لم حذف المقدر ،وجعل النفي عن ذات الله مباشرة ؟والجواب عن ذلك هو الإشارة إلى ان من دخل في ولاية غير المؤمنين تاركا ولاية المؤمنين ،فقد ترك ذات الله سبحانه وتعالى وكان مختارا لقوة الكفار دون قوة العزيز الجبار ،فهو يعاند الله نفسه ،ويحاد الله سبحانه ، والله عزيز ذو انتقام ،وهو ذو القوة المتين ،وهو الناصر ،فإن نصر فلا خذلان ،وإن خذل فلا نصر:{ إن ينصركم الله فلا غالب لكم . . .160}[ آل عمران] .
هذا حكم الجماعة الإسلامية او بعضها في الدخول في ولاية غير المسلمين ،ولكن قد يكون بعض الآحاد في حال ضعف ،وهم مضطرون لأن يعلنوا الموالاة لبعض الكافرين ،فهل يسوغ ذلك ؟ذكر الله حكم هؤلاء في هذا الاستثناء ،فقال سبحانه:{ إلا أن تتقوا تقاة}أي أن براءة الله سبحانه وتعالى من الذين يوالون الكفار ثابتة قائمة إلا في حال الخوف وخشية الضرر المؤكد لبعض المسلمين فإنه يجوز لهؤلاء أن يظهروا لهم الولاء ،وهم بذلك يتقون ضررهم المؤكد ،ومعنى:{ أن تتقوا منهم تقاة}أي تخافوا خوفا شديدا لضرر مؤكد ،فتجعلوا إظهار الولاء وقاية تتقون بها الضرر ؛وقد أكد سبحانه وتعالى الخوف بالمصدر فقال:{ أن تتقوا منهم تقاة}أي يكون الضرر ثابتا لا مجال للشك فيه ،وألا يتجاوز الولاء المظهر واتخاذ الوقاية المؤقتة .و"تقاة"مصدر وقى على وزن فعلة ،وأصله وقية ،قلبت الواو تاء كما في تؤدة أصلها وأدة ،وتهمة أصلها وهمة .
وإن هذا النص يستفاد منه ان التقية جائزة ،والتقية ان يظهر المؤمن غير ما يعتقد اتقاء الأذى الذي يتلف الجسم على ان يكون نزول الذي مؤكدا ،وهذا مأخوذ من قوله تعالى:{ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان . . .106}[ النحل] على أن يكون ذلك مقصورا على الأحوال الأحادية لا الأحوال الجماعية ،وعلى أن يجتهد الذين يكونون في ولاية غير المؤمنين ان يخرجوا من ولايتهم وألا يبقوا مستضعفين في الأرض ؛فقد قال تعالى:{ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا97 إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا98 فأولئك عسى الله ان يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا99}[ النساء] .
هذا ،هو التخويف لجل الحذر واليقظة ،والعمل على منع الأمر المخوف قبل وقوعه .والتحذير لا يكون إلا حيث يتوهم الشخص الآمن ،ويعتقد انه لا مخاف ،ولا ما يثير الخوف ؛وإن مقام التحذير هنا واضح بين ؛لأن أولئك الذين يوالون الكافرين يظنون ان ذلك من دواعي الأمن والاستقرار ، والواقع أنهم عن امنوا الكفار ومالأوهم على هذا واختاروا ولايتهم دون المؤمنين ،فإنهم لا يأمنون عقاب الله ،فعليهم ان يحذروه .
ومعنى{ ويحذركم الله نفسه}قال بعض العلماء فيه:إن الكلام على حذف مضاف وهو:عقاب الله او نقمته ،وعندي انه لا حاجة إلى تقدير مضاف ،بل إن التحذير من ذات الله ،والتحذير من ذات الله يقتضي الخوف ووقوع الرهبة في النفس من الذات العلية ،كما يقول القائل ولله المثل الأعلى:احذر الأسد ؛فإنه لا يقدر:صولته ولا شدته ،إنما يريد أن ذاته في كل أحوالها مخوفة مرهوبة .وعبر سبحانه عن التحذير من ذاته العلية بقوله:{ ويحذركم الله نفسه}للإشارة إلى تأكيد معنى المعاندة لله تعالى عند موالاة الكافرين ،فإن كلمة نفس تقال لتأكيد التعبير عن الذات ،كما يقول القائل:خاصمت زيدا نفسه ،وغاضبت عمروا نفسه ؛وللإشارة إلى ان ما ينزله الله تعالى مغيب غي معلن الآن ؛إذ إن التعبير بالنفس يكون لما يخفى في أطوائها ،كما قال الله تعالى عن نبيه عيسى:{ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك انت علام الغيوب116}[ المائدة] .
وهذا التحذير من ذات الله تعالى تحذير ممن يكون عقابه أدوم بقاء ،ونقمته أكثر استمرارا ؛ولذا قال بعد ذلك:{ وإلى الله المصير}أي إليه وحده المآل وانتهاء امر العباد ،فلا يكون ثمة معقب لما يقول ويفعل ،والمصير إليه حيث تذهب سطوة الكفار الذين يمالئونهم على المؤمنين ويوالونهم دون المؤمنين ؛فإن كانت للكافرين قوة ظاهرة في الدنيا فهي حال ليست باقية ،والمصير إلى الله والعاقبة للمتقين ،وإن كان للكافرين عزة في الأرض فاجرة ،فالعزة الحقيقية لله ولرسوله وللمؤمنين .