قوله تعالى: ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير ) .
ورد في سبب نزول هذه الآية جملة أقوال منها قول ابن عباس إنه كان الحجاج بن عمرو وكهمس بن أبي الحقيق وقيس بن وزيد ،وهؤلاء كانوا من اليهود يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ،فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم ،فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقيل: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه و سلم ،فأنزل الله تعالى هذه الآية ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم .
وذكر عن ابن عباس أنها نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا نقيبا وكان له حلفاء من اليهود ،فلما خرج النبي صلى الله عليه
وسلم يوم الأحزاب قال عبادة: يا نبي الله إن معي خمسمائة رجل من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو فأنزل الله تعالى: ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ){[442]} نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين وأن يتخذوهم أولياء وأعوانا وأنصارا ليسروا إليهم بالمودة من دون المؤمنين .وقوله: ( أولياء ) جمع ومفرده الولي ومعناه: المحب والصديق والنصير والصاحب والحليف والتابع ،والولاء والموالاة ضد المعاداة والولاية بالفتح والكسر بمعنى النصرة{[443]} .
وجملة المراد من هذه الآية نهي المؤمنين عن موالاة الكافرين أو اتخاذهم أعوانا وأنصارا من دون المؤمنين ،لا جرم أن موالاة المؤمنين للكافرين واتخاذهم بطانة لهم مع مسارّتهم والدنو منهم في إطار من التحالف والصداقة والحب لهو ضرب من ضروب النفاق المكشوف ،وأنه ظاهرة من ظواهر التهافت المسف الذي يفضي إلى تقليد للكافرين في عاداتهم وأخلاقهم وسلوكهم ،وتلك مدعاة للانخلاع – في الغالب- من ربقة الإسلام شيئا فشيئا بما يولج المتهافت الخائر في زمرة الشرك والمشركين والعياذ بالله !.
لا مساغ بحال ،في الأحوال العادية أن يوادع المسلم الكافرين على حساب المسلمين فيلاطفهم ويظاهرهم على المسلمين .
لا مساغ للمسلم أن يكون على هذا النحو من الضعة والإسفاف والخور ،وهو في كل الأحوال يعلم أن العزة لله جميعا ،فالله هو المعز والمذل ،وأن الملك كله بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده ،وأن الله هو الرازق وهو الباسط وهو المانع وإليه يرجع الأمر كله .
قوله: ( ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ) يعني من يوالي الكافرين في دينهم وعقيدتهم عن رضى وطواعية ليظهرهم بعد ذلك على عورات المسلمين وأسرارهم إلى غير ذلك من وجوه الموالاة للكافرين وموادتهم ( فليس من الله في شيء ) أي قد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن ملة الإسلام ودخوله بالكفر .
قوله: ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) تقاة بمعنى تقيّة بفتح التاء الأولى .يقال: أتقي تقية وتقاة .والتوقية يعني الكلاءة والحفظ ،واتقيت الشيء وتقيته أتقيه تقيً وتقية وتقاء .ووقاه الله وقاية أي حفظه .والاسم التقوى{[444]} .
والمراد نهي المؤمنين عن موالاة الكافرين إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين فيظهرون لهم اللطف ويخالفونهم في الدين .وبعبارة أخرى فإنه ليس لهم أن يلاطفوهم أو يوالوهم إلا أن يكونوا في سلطانهم فيخافوهم على أنفسهم فيظهروا لهم الولاية بألسنتهم ،على أن يضمروا لهم العداوة وأن لا يشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا يعينوهم على مسلم{[445]} .
قال ابن كثير في تأويل قوله تعالى: ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) أي من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته كما قال البخاري عن أبي الدرداء أنه قال "إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم "{[446]} ونكشر بفتح النون من الكشر بفتح الكاف وهو الضحك .نقول: كشر عن أسنانه يكشر كشرا ،في الضحك وغيره{[447]} .
وقد ذكر الرازي جملة أحكام للتقية نبينها هنا وهي:
أولا: أن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان ،وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان ،بل يجوز أيضا أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرّض في كل ما يقول ،فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب .
ثانيا: لو أنه أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل .ودليله أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله ؟قال: نعم .نعم .نعم .فقال: أتشهد أني رسول الله ؟قال: نعم .وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ،ومحمد رسول قريش ،فتركه ودعاة الآخر فقال: أتشهد أن محمدا رسول الله ؟قال: نعم .قال: أفتشهد أني رسول الله ؟فقال: إني أصم ثلاثا ،فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال:"أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه ".
ثالثا: أن التقية إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة ،وقد تجوز أيضا فيما يتعلق بإظهار الدين .فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائر البتة .
رابعا: ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين ،إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس .
خامسا: التقية جائزة لصون النفس .وهل هي جائزة لصون المال ؟يحتمل أن يحكم فيها بالجواز ؛لقوله صلى الله عليه و سلم:"حرمة المسلم كحرمة دمه "ولقوله صلى الله عليه و سلم:"من قتل دون ماله فهو شهيد "{[448]} .
قوله: ( ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير ) يخوف الله بذلك عباده من انتقامه وعذابه إذا هم خالفوه بموالاتهم أعداءه من المشركين الظالمين ومعاداتهم للمسلمين جريا وراء مكاسب مسفة رخيصة يمتن بها عليهم أعداء الله .إنه لا يلاطف الكافرين على اختلاف مللهم وعقائدهم فيوادهم ويناصرهم على حساب المسلمين إلا كل منافق خائن أو مشرك أثيم تمرد على شريعة الله فباء بالارتداد والزيغ عن ملة الإسلام وانتكس إلى حيث الخسران وسوء المصير .