{ رهبانية} منصوب ب{ ابتدعوها} على الاشتغال ، إما بنفس الفعل المذكور ، على قول الكوفيين . وإما بمقدر محذوف ، مفسر بهذا المذكور ، على قول البصريين . أي:وابتدعوا رهبانية ، وليس منصوبا بوقوع الجعل عليه .
فالوقف التام عند قوله:{ ورحمة} ثم يبتدئ{ ورهبانية ابتدعوها} أي:لم نشرعها لهم ، ولم نكتبها عليهم ، بل هم ابتدعوها من عند أنفسهم .
وفي نصب قوله:{ إلا ابتغاء رضوان الله} ثلاثة أوجه:
أحدها:أنه مفعول له ، أي لم نكتبها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله . وهذا فاسد . فإنه لم يكتبها عليهم سبحانه . كيف وقد أخبر أنهم هم ابتدعوها ؟ فهي مبتدعة غير مكتوبة . وأيضا:فإن المفعول لأجله يجب أن يكون علة لفعل الفاعل المذكور معه فيتحد السبب والغاية . نحو:قمت إكراما . فالقائم هو المكرم ، وفعل الفاعل المعلل هاهنا:هو الكتابة ، و{ ابتغاء رضوان الله}:فعلهم لا فعل الله . فلا يصلح أن يكون علة لفعل الله . لاختلاف الفاعل .
وقيل:بدل من مفعول{ كتبناها} أي:ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله .
وهو فاسد أيضا ، إذ ليس ابتغاء رضوان الله عين الرهبانية . فتكون بدل الشيء من الشيء ، ولا بعضها ، فتكون بدل بعض من كل ، ولا أحدهما مشتمل على الآخر ، فيكون بدل اشتمال . وليس ببدل غلط .
فالصواب:أنه منصوب نصب الاستثناء المنقطع ، أي:لم يفعلوها ولم يبتدعوها إلا لطلب رضوان الله .
ودل على هذا قوله:{ ابتدعوها} ثم ذكر الحامل لهم والباعث على ابتداع هذه الرهبانية ، وأنه هو طلب رضوان الله ، ثم ذمهم بترك رعايتها ، إذ من التزم لله شيئا لم يلزمه الله إياه من أنواع القرب ، لزمه رعايته وإقامته ، حتى ألزم كثير من الفقهاء من شرع في طاعة مستحبة بإتمامها ، وجعلوا التزامها بالشروع ، كالتزامها بالنذر ، كما قال:أبو حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه . وهو إجماع ، أو كالإجماع في أحد النسكين .
قالوا:والالتزام بالشروع أقوى من الالتزام بالقول . فكما يجب عليه رعاية ما التزمه بالنذر وفاء ، يجب عليه رعاية ما التزمه بالفعل إتماما . وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة .
والقصد:أن الله سبحانه وتعالى ذم من لم يرع قربة ابتدعها لله تعالى حق رعايتها . فكيف بمن لم يرع قربة شرعها الله لعباده ، وأذن بها ، وحث عليها ؟