{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثارِهِم بِرُسُلِنَا} الذين توزعوا بين أمم مختلفةٍ وبلادٍ شتى ،فبلغوا رسالات الله من خلال ما أنزله الله إليهم من كتب ،ومن خلال ما أكدوه من الكتب المنزلة على غيرهم من الأنبياء أولي العزم ،وربما كان التعبير بقوله{عَلَى آثارِهِم} موحياً بوحدة الخط الرسالي الذي يتحرك فيه الأنبياء في رسالات الله .{وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الذي كان آيةً في خلقه ،كما كان نموذجاً مميزاً في حياته ورسالته{وَآتيناهُ الإِنجِيلَ} الذي أراده الله قاعدةً للوعي الروحي المنفتح عليه ،{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} من خلال القيم الروحية المنطلقة من قاعدة المحبة الإنسانية الداعية إلى العفو والتسامح والخير الشامل الذي يلتقي بالرأفة والرحمة في امتداداتهما الشعورية في حياة الإنسان والحيوان .
رهبانية ابتدعوها
{وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فقد عاشوا معاني التأمل والتفكير في الله ،واندمجوا بالعبادة الخاشعة الخاضعة المستسلمة لعبوديتهم له ،واستغرقوا في ذلك كله حتى تحولت لديهم إلى حالةٍ من العزلة والانقطاع عن الناس ،ليتفرغوا إلى الغاية العظيمة وهي الحصول على رضا الله والوصول إلى أعلى مراتب القرب لديه ،فكانت الرهبانية نتيجةً لذلك ،في ما تصوروه من نتائجها .وهكذا ابتدعوها كقاعدةٍ للسلوك العملي العبادي ،وكمنطلق للسمو الروحي ،فلم تكن فرضاً من الله عليهم ،ولم تنزل كشريعةٍ عباديةٍ في التشريع العبادي الذي يحدد للعبادة فروضها وطقوسها ،ولكنها كانت استيحاءً فكرياً وروحياً من القيم الكبيرة التي أكدتها مفاهيم الإنجيل ،في ما لم يرد فيه منعٌ خاص ،فانطلقوا فيه من خلال رغبتهم في رضا الله .
ولكن المشكلة في مثل هذه الأمور أن تبقى لها روحيتها ،وأن تتحرك معاني الصفاء في داخلها ،وأن تستقر النهاية كغاية لانطلاقة البداية ،لتبقى في امتداداتها الروحية مدداً للإنسان في اتصاله بالله ،فما الذي حدث بعد ذلك ؟
لقد تحولت إلى طقوسٍ وعادات وشعائر خاليةٍ من الروح ،وابتعدت عن التوازن في الجانب الواقعي العملي في حاجات الإنسان الخاصة ،{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} لأن الإنسان الذي يريد رضا الله لا بد له من أن يعرف الطريق إليه ،فلا يبتدعه من نفسه إلا من خلال ما يقتنع به من حدود الله في ذلك ،لأنه سوف يبتعد عن الطريق الحق نحو رضوان الله .{فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} على معاناتهم الفكرية والعملية في خط الإيمان ،لأنهم كانوا الجادين في مواجهة الحقيقة العقيدية في رحاب الله ،كما كانوا المخلصين في الالتزام بالنتائج العملية التي يفرضها الإيمان على المؤمنين{وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} لأنهم كانوا بعيدين عن الله في روحية المضمون الفكري والعملي ،لأن الله لا ينظر إلى جانب السطح في الشكل ،بل إلى جانب العمق في المضمون ،في ما هي العقيدة وفي ما هو الشعور .