ثمّ يشير إشارة مختصرة إلى قسم آخر من سلسلة الأنبياء الكرام التي تختتم بعيسى ( عليه السلام ) آخر رسول قبل نبيّنا محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث يقول سبحانه: ( ثمّ قفّينا على آثارهم برسلنا ) .
حيث حملوا نور الهداية للناس ليضيئوا لهم الطريق ،وتعاقبوا في حملها الواحد بعد الآخر ،حتّى وصل الدور إلى السيّد المسيح ( عليه السلام ): ( وقفّينا بعيسى ابن مريم ) .
«قفّينا » من ( قفا ) بمعنى الظهر ،ويقال للقافية قافية بسبب أنّ بعضها يتبع بعضاً ،وتطلق عادةً على الحروف المتشابهة في آخر كلّ بيت من بيوت الشعر ،والمقصود في الجملة من الآية أعلاه أنّ الأنبياء جاءوا بلحن واحد وأهداف منسجمة ،الواحد تلو الآخر ،وبدأوا وأكملوا التعليمات التي حملوها من الله إلى أقوامهم ..
وهذا التعبير جميل جدّاً ،وهو إشارة لطيفة إلى مبدأ وحدة الرسالات وتوحيد النبوّة .
ثمّ يشير هنا إلى الكتاب السماوي للسيّد المسيح ( عليه السلام ) حيث يقول: ( وآتيناه الإنجيل ) ويستمرّ متحدّثاً عن خصوصيات أتباعه فيقول سبحانه: ( وجعلنا في قلوب الذين اتّبعوه رأفةً ورحمة ) .
ويرى بعض المفسّرين أنّ مصطلحي «الرأفة » و «الرحمة » بمعنى واحد ،إلاّ أنّ قسماً آخر اعتبرهما مختلفين وقالوا: إنّ «الرأفة » تعني الرغبة في دفع الضرر ،و «الرحمة » تعني الرغبة في جلب المنفعة .
ولهذا تذكر الرأفة قبل الرحمة غالباً ،لأنّ قصد الإنسان ابتداء هو دفع الضرر ومن ثمّ يفكّر في جلب المنفعة .
وممّا يدلّل به على هذا الرأي ما استفيد من آية حدّ الزاني والزانية حيث يقول سبحانه: ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ){[5121]} .
إنّ موضوع الرأفة والرحمة بالنسبة للأتباع الحقيقيين للسيّد المسيح ( عليه السلام ) لم يذكر في هذه الآية فقط ،بل ورد هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى: ( ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهباناً وأنّهم لا يستكبرون ){[5122]}
وبالرغم من أنّ الآية الكريمة أخذت بنظر الاعتبار مسيحيي الحبشة وشخص «النجاشي » بالذات ،حيث آوى المسلمين وعاملهم بإحسان ومحبّة خاصّة ،إلاّ أنّها بشكل عام تشير إلى الرأفة والرحمة والعواطف الإيجابية للمسيحيين الحقيقيين .
ومن الطبيعي ألاّ يكون المقصود هنا المسيحيين الذين يمارسون أقذر الأعمال وأكثرها إجراماً وانحطاطا بحقّ الشعوب المستضعفة ،هؤلاء الذين تلبّسوا بلباس الإنسانية ،وهم في الحقيقة ذئاب مفترسة تصبغ حياة المحرومين بلون الدم والظلام ..ثمّ يضيف سبحانه: ( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلاّ ابتغاء رضوان الله فما رعوها حقّ رعايتها فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ){[5123]} .
وممّا تقدّم يتّضح لنا أنّ هؤلاء ليسوا ممّن لم يراعوا مبدأ التوحيد للسيّد المسيح ( عليه السلام ) فقط ،بل دنسوه بأنواع الشرك ،ولم يراعوا أيضاً حتّى حقّ الرهبانية التي ابتدعوها باسم الزهد ،حيث وضعوا مكائد في طريق خلق الله ،وجعلوا من الأديرة والكنائس مراكز لأنواع الفساد ،وأوجدوا انحرافا خطيراً في رسالة السيّد المسيح ( عليه السلام ) .
ومن مفهوم الآية يتّضح لنا أنّ الرهبانية لم تكن جزءاً من رسالة السيّد المسيح ( عليه السلام ) ،إلاّ أنّ أتباعه هم الذين ابتدعوها من بعده ،حيث بدأت بشكل معتدل ثمّ مالت نحو الانحراف .
وطبقاً لتفسير آخر فإنّ نوعاً من الرهبانية والزهد كان من مبدأ السيّد المسيح( عليه السلام ) ،إلاّ أنّ أتباعه وأصحابه ابتدعوا نوعاً آخر من الرهبانية لم يقرّرها الله لهم{[5124]} .
والتّفسير الأوّل هو الأكثر شهرةً ،والمناسب أكثر من بعض الجهات .
وعلى كلّ حال ،فالمستفاد من الآية أعلاه إجمالا هو أنّ الرهبانية لم تكن في شريعة السيّد المسيح ( عليه السلام ) ،وأنّ أصحابه ابتدعوها من بعده ،وكان ينظر إليها في البداية على أنّها نوع من أنواع الزهد والإبداعات الخيّرة لكثير من السنن الحسنة التي تشيع بين الناس .ولا تتّخذ عنوان التشريع أو الدستور الشرعي ،إلاّ أنّ هذه السنّة تعرّضت إلى الانحراففيما بعدوتحريف التعاليم الإلهية ،بل اقترنت بممارسات قبيحة على مرّ الزمن .
والتعبير القرآني بجملة: ( فما رعوها حقّ رعايتها ) دليل على أنّه لو أعطي حقّها لكانت سنّة حسنة .
وما ورد في الآية التالية التي تتحدّث عن الرهبان والقساوسة يتناول هذا المعنى حيث يقول تعالى: ( لتجدنّ أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ،ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا ،الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهباناً وأنّهم لا يستكبرون ){[5125]} ( يرجى ملاحظة ذلك ) .
وهكذا يتبيّن أنّ كلمة «الرهبانية » كلّما كانت بمعنى الرأفة والرحمة فإنّها تشكّل دليل إضافياً على صحّة الإدّعاء أعلاه ،لأنّها ستكون بمعنى مستوى الرأفة والرحمة التي وضعها الله في قلوبهم بعنوان أنّها صفة حميدة .
ومختصر الكلام هو: إذا وجدت سنّة حسنة بين الناس تكون أصولها الكليّة وخطوطها العريضة في دائرة المبدأ الحقّ ( كالزهد ،مثلا ،فإنّ ذلك ليس عملا قبيحاً ،بل يعتبر مصداقاً من مصاديق الخطّ العام للمبدأ ،خاصّة إذا لم تنسب هذه
السنّة إلى المبدأ الإلهي ..ولسوء الحظّ فإنّ جملة من الإفراطات والتفريطات وجدت بين ظهرانينا تحت قناع الدين وتحوّلت إلى سنّة سيّئة .
إنّ مراسم الأعياد والتعازي والوفيّات الخاصّة بعظماء الإسلام وما يتعلّق بإحياء ذكرى الشهداء والأحبّة الراحلينسواء في يوم استشهادهم ،أو اليوم السابع ،أو بعد مرور أربعين يوماً من الشهادة أو الوفاة ،وكذا ما يتعلّق بذكراهم السنويةهو مصداق للمفاهيم الكليّة في الإسلام حول تعظيم شعائر الله تعالى ،وإحياء ذكر قادة الإسلام وعموم شهداء المسلمين ،وبغضّ النظر عن الجزئيات والتفاصيل فإنّ هذه المراسم مصداق من الأصل الكلّي فقط ،ولا يمكن اعتبارها مبادئ شرعية .
وكلّما أنجزت هذه المراسم بدون تجاوز للحدود الشرعية وعدم تدنيسها بالخرافات والممارسات اللا شرعيّة ،فإنّهامن المسلّممصداق لابتغاء رضوان الله ،ومصداق سنّة حسنة ،وفي غير هذه الصورة فإنّها ستكون بدعة الشؤم والسنّة السيّئة .
«الرهبانية » من مادّة ( رهب ) مأخوذة من معنى الخوف من الله ،ويفهم أنّها كانت في البداية مصداقاً للزهد وعدم الاهتمام بشؤون الدنيا ،إلاّ أنّها تعرّضت فيما بعد لانحرافات واسعة ،وإذا ما لاحظنا موقف الإسلام المناهض والمقاوم للرهبانية بشدّة فمن هذا الباب وبهذا اللحاظ .كما سنستعرض ذلك فيما يلي:
/خ27