/م28
التّفسير
الذين لهم سهمان من الرحمة الإلهية:
بما أنّ الحديث في الآيات السابقة كان عن أهل الكتاب والمسيحيين ،فإنّ الآيات مورد البحث مكمّلة لما جاء في الآيات السابقة ؛يقول سبحانه: ( يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وآمنوا برسوله ) .
وللمفسّرين رأيان حول طبيعة المخاطب في هذه الآية:
الأوّل: إنّ المخاطب هم المؤمنون ،حيث يبيّن لهم سبحانه أنّ الإيمان الظاهري غير كاف للفرد ،ولابدّ أن يكون الإيمان عميقاً توأماً مع التقوى والعمل ،كي ينالوا الأجر العظيم والذي ستتعرّض له الآية الكريمة .
الثاني: إنّ المخاطب هنا هم مؤمنو أهل الكتاب ،ويعني: يا من آمنتم بالأنبياء والكتب السابقة آمنوا برسول الإسلام ،ولتكن تقوى الله نصب أعينكم كي يشملكم سبحانه بأنواع أجره وجزائه .
والذي يؤيّد الرأي الثاني هو ذكر ( الأجر المضاعف ) والذي ورد في نهاية الآية والمقصود به جزاء الإيمان بالأنبياء السابقين ،وجزاء الإيمان برسول الإسلام .
إلاّ أنّ هذا التّفسير إضافة إلى أنّه لا يتناسب مع الآية اللاحقةكما سنوضّحفإنّه كذلك لا ينسجم مع سبب نزول الآية وطبيعة الإطلاق الذي ورد فيها بقوله: ( يا أيّها الذين آمنوا ) .
وبناءً على هذا فلابدّ من تبنّي الرأي القائل بأنّ المقصود بالمخاطب هم جميع المؤمنين الذين قبلوابالظاهردعوة الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولكنّهم لم يؤمنوا بها الإيمان الراسخ الذي يضيء أعماق النفوس ويتجسّد في أعمالهم وممارساتهم .
وتكملة للآية الكريمة يشير القرآن الكريم إلى ثلاث نعم عظيمة تحصل في ظلّ الإيمان العميق والتقوى حيث يقول تعالى: ( يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم ) .
«كفل » على وزن ( طفل ) بمعنى الحصّة التي توفّر للإنسان حاجته ،ويقال للضامن «كفيل » أيضاً بهذا اللحاظ ،حيث يكفل الطرف المقابل ويضمنه بنفسه{[5126]} .
والمقصود من هاتين الحصّتين أو النصيبين هو ما جاء في قوله تعالى: ( ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ) .
واحتمل أيضاً أنّ هذين النصيبين يمكن أن يكون أحدهما الإيمان برسول الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والآخر الإيمان بالأنبياء السابقين ،لأنّ كلّ مسلم ملزم بموجب اعتقاده أن يؤمن بكلّ الأنبياء السابقين والكتب السماوية ويحترمها .
وذكر البعض أنّ المقصود هو الأجر المستمر والمتعاقب والمضاعف .
إلاّ أنّ الجمع بين جميع هذه المعاني ممكن أيضاً .
وحول القسم الثاني من الجزاء والأجر يقول تعالى: ( ويجعل لكم نوراً تمشون به ) قال بعض المفسّرين: إنّ المقصود بذلك هو نور الإيمان الذي يسبق المؤمنين في سيرهم يوم القيامة ،ويبدّد ظلمات الحشر ،حيث يتقدّمون إلى الجنّة والسعادة الأبديّة .كما جاء في الآية الكريمة: ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ){[5127]} .
في الوقت الذي اعتبرها البعض الآخر إشارة إلى نور القرآن الذي يشعّ على المؤمنين في الدنيا ،كما جاء في قوله تعالى: ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ){[5128]} .
إلاّ أنّ للآية مفهوماً مطلقاً واسعاً حسب الظاهر ولا يختص بالدنيا فقط ولا بالآخرة فحسب ،وبتعبير آخر فإنّ الإيمان والتقوى هي التي تسبّب زوال الحجب عن قلوب المؤمنين ،حيث يتبيّن لهم وجه الحقيقة واضحاً وبدون حجاب ،وفي ظلّ الإيمان والتقوى هذين سيكون للإنسان وعي وبصيرة حرّم غير المؤمنين منها .
جاء في روايات أهل البيت ( عليهم السلام ) أنّ المقصود بالنور في الآية أعلاه هو: «إمام تأتمون به » ،وهو في الحقيقة بيان واحد من المصاديق الواضحة{[5129]} .
وأخيراً فإنّ ثالث جزاء للمؤمنين المتّقين هو ( غفران الذنوب ) لأنّ بدونه لا يكون للإنسان هناء بأي نعمة من الله عليه ،حيث يجب أن يكون في البداية في مأمن من العذاب الإلهي ثمّ ينتقل إلى المسير في طريق النور والتقوى لينال الرحمة الإلهية المضاعفة .
/خ29