الغالب في القرآن أن الذين آمنوا لقب للمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم ولكن لما وقع{ يا أيها الذين آمنوا} هنا عقب قوله:{ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم}[ الحديد: 27] ،أي من الذين اتبعوا عيسى عليه السلام ،احتمل قوله:{ يا أيها الذين آمنوا} أن يكون مستعملاً استعماله اللَّقبي أعني: كونه كالعلَم بالغلبة على مؤمني ملّة الإسلام .واحتمل أن يكون قد استُعمل استعمالَه اللُّغوي الأعَمَّ ،أعني: من حصل منه إيمان ،وهو هنا من آمن بعيسى .والأظهر أن هذين الاحتمالين مقصودَاننِ ليأخذ خُلص النصارى من هذا الكلام حظهم وهو دعوتهم إلى الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ليستكملوا ما سبق من اتباعهم عيسى فيكون الخطاب موجهاً إلى الموجودين ممن آمنوا بعيسى ،أي يا أيها الذين آمنوا إيماناً خالصاً بشريعة عيسى اتقوا الله واخشَوْا عقابه واتركوا العصبية والحسد وسوء النظر وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وأما احتمال أن يراد بالذين آمنوا الإِطلاق اللقبي فيأخذَ منه المؤمنون من أهل الملة الإِسلامية بشارةً بأنهم لا يقلّ أجرهم عن أجر مؤمني أهل الكتاب لأنهم لما آمنوا بالرسل السابقين أعطاهم الله أجر مؤمني أهل مِللهم ،ويكون قوله:{ وآمنوا} مستعملاً في الدوام على الإِيمان كقوله:{ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله} في سورة[ النساء: 136] ،ويكون إقحام الأمر بالتقوى في هذا الاحتماللِ قصداً لأن يحصل في الكلام أمر بشيء يتجدد ثم يُردفَ عليه أمر يفهم منه أن المراد به طلب الدوام وهذا من بديع نظم القرآن .
ومعنى إيتاء المؤمنين من أهل ملة الإسلام كفلين من الأجر: أن لهم مثل أجرَي من آمن من أهل الكتاب .ويشرح هذا حديث أبي موسى الأشعري عن النبي في صحيح البخاري} الذي فيه «مثل المسلمين واليهود والنصار كمثَل رجل استأجر أَجراء يعملون له ،فعملت اليهود إلى نصف النهار ،وعملت النصارى من الظهر إلى العصر على قيراط ،ثم عمل المسلمون من العصر إلى الغروب على قيراطين ،قال فيه: واستكمَلُوا أجر الفريقين كليهما» أي استكملوا مثل أجر الفريقين ،أي أخذوا ضعف كل فريق .
وتقوى الله تتعلق بالأعمال وبالاعتقاد ،وبعلم الشريعة ( وقد استدل أصحابنا على وجوب الاجتهاد للمتأهل إليه بقوله تعالى:{ فاتقوا الله ما استطعتم}[ التغابن: 16] .)
وقوله:{ اتقوا الله} أمر لهم بما هو وسيلة ومقدمة للمقصود وهو الأمر بقوله:{ وآمنوا برسوله} .
ورتب على هذا الأمر ما هو جواب شرط محذوف وهو جملة{ يؤتكم كفلين} الخ المجزوم في جواب الأمر ،أي يؤتكم جزاءً في الآخرة وجزاء في الدنيا فجزاء الآخرة قوله:{ يؤتكم كفلين من رحمته} وقوله:{ ويغفر لكم} ،وجزاء الدنيا قوله:{ ويجعل لكم نوراً تمشون به} .
والكِفل: بكسر الكاف وسكون الفاء: النصيب .
وأصله: الأجر المضاعف ،وهو معرب من الحبشية كما قاله أبو موسى الأشعري ،أي يؤتكم أجرين عظيمين ،وكل أجر منهما هو ضِعف الآخر مماثل له فلذلك ثُني كفلين كما يقال: زوج ،لأحد المتقاربين ،وهذا مثل قوله تعالى:{ ربنا آتهم ضعفين من العذاب}[ الأحزاب: 68] وقوله:{ يضاعف لها العذاب ضعفين}[ الأحزاب: 30] .وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يوتَوْن أجورهم مرتيْن: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيئه وآمن بي ،واتبعني ،وصدقني فله أجران» الحديث .
ويتعلق{ من رحمته} ب{ يؤتكم} ،و ( من ) ابتدائية مجازياً ،أي ذلك من رحمة الله بكم ،وهذا في جانب النصارى معناه لإِيمانهم بمحمد وإيمانهم بعيسى ،أي من فضل الله وإكرامه وإلا فإن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واجب عليهم كإيمانهم بعيسى وهو متمم للإِيمان بعيسى وإنما ضوعف أجرهم لما في النفوس من التعلق بما تدين به فيعسر عليها تركه ،وأما في جانب المسلمين فهو إكرام لهم لئلا يفوقهم بعض من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من النصارى .
ويجوز أن يكون{ من رحمته} صفةً ل{ كفلين} وتكون ( من ) بيانية ،والكلام على حذف مضاف ،تقديره: من أثر رحمته ،وهو ثواب الجنة ونعيمها .
وقوله:{ ويجعل لكم نوراً تمشون به} تمثيل لحالة القوم الطالبين التحصيل على رضى الله تعالى والفوز بالنعيم الخائفين من الوقوع في ضد ذلك بحالة قوم يمشون في طريق بليل يخشون الخطأ فيه فيعطون نوراً يتبصرون بالثنايا فيأمنون الضلال فيه .والمعنى: ويجعل لكم حالة كحالة نور تمشون به ،والباء للاستعانة مثل: كتبت بالقلم .
والمعنى: ويُيسّر لكم دلالة تهتدون بها إلى الحق .
وجميع أجزاء هذا التمثيل صالحة لتكون استعارات مفردة ،وهذا أبلغ أحوال التمثيل ،وقد عرف في القرآن تشبيه الهدى بالنور ،والضلال بالظلمة ،والبرهان بالطريق ،وإعماللِ النظر بالمشي ،وشاع ذلك بعد القرآن في كلام أدباء العربية .
والمغفرة: جزاء على امتثالهم ما أمروا به ،أي يغفر لكم ما فرط منكم من الكفر والضلال .