فشبه سبحانه من أتاه كتابه ، وعلمه العلم الذي منعه غيره ، فترك العمل به واتبع هواه ، وآثر سخط الله على رضاه ، ودنياه على آخرته ، والمخلوق على الخالق:فالكلب الذي هو من أخس الحيوانات ، وأوضعها قدرا ، وأخسها نفسا ، وهمته لا تتعدى بطنه . وأشدها شرها وحرصا . ومن حرصه:أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض بتشمم ، ويستروح حرصا وشرها ، ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزاء جسمه ، وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته ، وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان ، وأرضاها بالدنايا والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم ، والعذرة أحب إليه من الحلوى ، وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا واحدا يتناول منها شيئا إلا هر عليه وقهره ، لحرصه وبخله وشرهه .
ومن عجيب أمره وحرصه:أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية ، وحال زرية نبحه ، وحمل عليه ، كأنه يتصور مشاركته له ، ومنازعته في قوته . وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة:وضع له خطمه بالأرض ، وخضع له ، ولم يرفع إليه رأسه .
وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه:بالكلب في حال لهثه:سر بديع ، وهو أن الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه:إنما كان لشدة لهفه على الدنيا ، لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة ، فهو شديد اللهف عليها ، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه . واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى .
قال ابن جريج:الكلب منقطع الفؤاد ، لا فؤاد له:إن تحمل عليه يلهث ، أو تتركه يلهث . فهو مثل الذي يترك الهدى ، لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع .
قلت:مراده بانقطاع فؤاده:أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث وهكذا الذي انسلخ من آيات الله ، لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا ، وترك اللهف عليها ، فهذا يلهث على الدنيا من قلة صبره عنها ، وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء ، فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء ، وإذا عطش أكل الثرى من العطش ، وإن كان فيه صبر على الجوع ، وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا:يلهث قائما ، وقاعدا ، وماشيا ، وواقفا ، وذلك لشدة حرصه ، فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث .
فهكذا مشبهه:شدة الحرص وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث فإن حملت عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث ، وإن تركته ولم تعظه فهو يلهث .
قال مجاهد:وذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما:إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها ، وإن تركته لم يهتد إلى خيرا كالكلب إن كان رابضا ، لهث ، وإن طرد لهث .
وقال الحسن:هو المنافق لا يثبت على الحق دعي أو لم يدع ، وعظ أو لم يوعظ ، كالكلب يلهث طرد أو ترك . .
وقال عطاء:ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه .
وقال أبو محمد بن قتيبة:كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش ، إلا الكلب ، فإنه يلهث في حال الكلال ، وحال الراحة ، وحال الصحة ، وحال المرض ، والعطش .
فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته ، وقال:إن وعظته فهو ضال ، وإن تركته فهو ضال ، كالكلب إن طردته لهث ، وإن تركته على حاله لهث . .
ونظيره قوله سبحانه:{ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} [ الأعراف:193] .
وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعاني:
فمنها:قوله:{ آتيناه آياتنا} فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته ، فإنها نعمة والله هو الذي أنعم بها عليه ، فأضافها إلى نفسه ثم قال:{ فانسلخ منها} أي خرج منها ، كما تنسلخ الحية من جلدها ، وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم .
ولم يقل:فسلخناه منها:؛ لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباعه هواه .
ومنها:قوله سبحانه{ فأتبعه الشيطان} أي لحقه وأدركه ، كما قال في قوم فرعون:{ فأتبعوهم مشرقين} [ الشعراء:60] وكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا على غرة وخطفة ، فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته{ فكان من الغاوين} العاملين بخلاف علمهم ، الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء .
ومنها:أنه سبحانه قال:{ ولو شئنا لرفعناه بها} فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم . فإن هذا كان من العلماء ، وإنما هي باتباع الحق وإيثاره ، وقصد مرضاة الله ، فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه ، ولم يرفعه الله بعلمه ، ولم ينفعه به ، فنعوذ بالله من علم لا ينفع .
وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم ، وإن لم يرفعه الله فهو موضوع ، لا يرفع أحد به رأسا ، فإن الخافض الرافع سبحانه خفضه ولم يرفعه .
والمعنى:لو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه .
قال ابن عباس رضي الله عنهما:ولو شئنا لرفعناه بعمله .
بها وقالت طائفة:الضمير في قوله «لرفعناه » عائد على الكفر . والمعنى:لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بما معه من آياتنا . قال مجاهد وعطاء:لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه .
وهذا المعنى حق ، والأول هو مراد الآية . وهذا من لوازم المراد .
وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية ، فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها .
وقوله:{ ولكنه أخلد إلى الأرض} قال سعيد بن جبير:ركن إلى الأرض .
وقال مجاهد:سكن ، وقال مقاتل رضي بالدنيا ، وقال أبو عبيدة:لزمها وأبطأ .
والمخلد من الرجال:هو الذي يبطئ مشيته ، ومن الدواب:التي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته .
وقال الزجاج:خلد وأخلد ، وأصله من الخلود . وهو الدوام والبقاء ، ويقال:«أخلد فلان بالمكان»إذا أقام به ، قال مالك بن نويرة
بأبناء حي من قبائل مالك *** وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
قلت:ومنه قوله تعالى:{ يطوف عليهم ولدان مخلدون} [ الواقعة:17] أي قد خلقوا للبقاء ، لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون ، وهم على سن واحد أبدا .
وقيل:هم المقرطون في آذانهم ، والمسورون في أيديهم .
وأصحاب هذا القول فسروا اللفظة ببعض لوازمها ، وذلك أمارة التخليد على ذلك السن فلا تنافي بين القولين .
وقوله:{ واتبع هواه} قال الكلبي:اتبع مسافل الأمور ، وترك معاليها .
وقال أبو روق:اختار الدنيا على الآخرة ، وقال عطاء:أراد الدنيا وأطاع شيطانه .
وقال ابن زيد:كان هواه مع القوم ، يعني الذين حاربوا موسى وقومه .
وقال ابن يمان:اتبع امرأته ، لأنها هي التي حملته على ما فعل .
فإن قيل:الاستدراك «بلكن » يقتضي أن يثبت بعدها ما نفي قبلها ، أو ينفي ما أثبت ، كما تقول:لو شئت لأعطيته ، لكني لم أعطه ولو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته ، فالاستدراك يقتضي:ولو شئنا لرفعناه بها ولكنا لم نشأ ، أو لم نرفع ، فكيف استدرك بقوله:{ ولكنه أخلد إلى الأرض} بعد قوله:{ ولو شئنا لرفعناه بها} ؟
قيل:هذا من الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى ، المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني وذلك أن مضمون قوله:{ ولو شئنا لرفعناه بها} أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات:من إيثار الله ومرضاته على هواه ، ولكنه آثر الدنيا ، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه .
وقال الزمخشري:المعنى:لو لزم آياتنا لرفعناه بها ، فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه ، كأنه قيل:ولو لزمها لرفعناه بها . قال:ألا ترى إلى قوله{ ولكنه أخلد} فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله . فوجب أن يكون:ولو شئنا في معنى:ما هو فعله ، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال:لو شئنا لرفعناه ، ولكنا لم نشأ .
فهذا من الزمخشري شنشنة نعرفها من قدري ناف للمشيئة العامة ، مبعد للنجعة في جعل كلام الله معتزليا قدريا .
فأين قوله:{ ولو شئنا} من قوله:ولو لزمها ، ثم إذا كان اللزوم لها موقوفا على مشيئة الله - وهو الحق - بطل أصله .
وقوله:إن مشيئة الله تابعة للزومه الآيات:من أفسد الكلام وأبطله ، بل لزومه لآيات تابع لمشيئة الله ، فمشيئة الله سبحانه متبوعة لا تابعة . وسبب لا مسبب ، وموجب مقتض لا مقتضى فما شاء الله وجب وجوده ، وما لم يشأ امتنع وجوده .