وقوله:( أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز ):يبين تعالى لطفه بخلقه ، وإحسانه إليهم في إرساله الماء إما من السماء أو من السيح ، وهو:ما تحمله الأنهار وينحدر من الجبال إلى الأراضي المحتاجة إليه في أوقاته; ولهذا قال:( إلى الأرض الجرز ) ، وهي [ الأرض] التي لا نبات فيها ، كما قال تعالى:( وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) [ الكهف:8] ، أي:يبسا لا تنبت شيئا وليس المراد من قوله:( إلى الأرض الجرز ) أرض مصر فقط ، بل هي بعض المقصود ، وإن مثل بها كثير من المفسرين فليست [ هي] المقصودة وحدها ، ولكنها مرادة قطعا من هذه الآية ، فإنها في نفسها أرض رخوة غليظة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطرا لتهدمت أبنيتها ، فيسوق الله إليها النيل بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة ، وفيه طين أحمر ، فيغشى أرض مصر ، وهي أرض سبخة مرملة محتاجة إلى ذلك الماء ، وذلك الطين أيضا لينبت الزرع فيه ، فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم ، وطين جديد من غير أرضهم ، فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود ابتداء .
قال ابن لهيعة ، عن قيس بن حجاج ، عمن حدثه قال:لما فتحت مصر ، أتى أهلها عمرو بن العاص - [ وكان أميرا بها] - حين دخل بئونة من أشهر العجم ، فقالوا:أيها الأمير ، إن لنيلنا سنة لا يجري إلا بها . قال:وما ذاك ؟ قالوا:إذا كانت ثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها ، فأرضينا أبويها ، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ، ثم ألقيناها في هذا النيل . فقال لهم عمرو:إن هذا لا يكون في الإسلام ، إن الإسلام يهدم ما كان قبله . فأقاموا بئونة والنيل لا يجري ، حتى هموا بالجلاء ، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك ، فكتب إليه:إنك قد أصبت بالذي فعلت ، وقد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا ، فألقها في النيل . فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها:من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر ، أما بعد . . . فإنك إن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله أن يجريك . قال:فألقى البطاقة في النيل ، وأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة ، وقطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم . رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي الطبري في كتاب "السنة "له .
ولهذا قال تعالى:( أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ) ، كما قال تعالى:( فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا [ متاعا لكم ولأنعامكم] ) [ عبس:24 - 32] ; ولهذا قال هاهنا:( أفلا يبصرون ) . وقال ابن أبي نجيح ، عن رجل ، عن ابن عباس في قوله:( إلى الأرض الجرز ) قال:هي التي لا تمطر إلا مطرا لا يغني عنها شيئا ، إلا ما يأتيها من السيول .
وعن ابن عباس ، ومجاهد:هي أرض باليمن .
وقال الحسن ، رحمه الله:هي قرى فيما بين اليمن والشام .
وقال عكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد:الأرض الجرز:التي لا نبات فيها وهي مغبرة .
قلت:وهذا كقوله:( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ) [ يس:33 - 35] .