قال البخاري:حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال:سمعت البراء قال:آخر سورة نزلت:"براءة "، وآخر آية نزلت:( يستفتونك ) .
وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن المنكدر قال:سمعت جابر بن عبد الله قال:دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا مريض لا أعقل ، قال:فتوضأ ، ثم صب علي - أو قال صبوا عليه - فعقلت فقلت:إنه لا يرثني إلا كلالة ، فكيف الميراث ؟ قال:فنزلت آية الفرائض .
أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة ، ورواه الجماعة من طريق سفيان بن عيينة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر ، به . وفي بعض الألفاظ:فنزلت آية الميراث:( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) الآية .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان وقال ابن الزبير قال - يعني جابرا -:نزلت في:( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) .
وكأن معنى الكلام - والله أعلم - ( يستفتونك ):عن الكلالة قل:الله يفتيكم فيها ، فدل المذكور على المتروك .
وقد تقدم الكلام على الكلالة واشتقاقها ، وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه ; ولهذا فسرها أكثر العلماء:بمن يموت وليس له ولد ولا والد ، ومن الناس من يقول:الكلالة من لا ولد له ، كما دلت عليه هذه الآية:( إن امرؤ هلك ) [ أي مات] ( ليس له ولد ) .
وقد أشكل حكم الكلالة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال:ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه:الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا .
وقال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة قال:قال عمر بن الخطاب:ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة ، حتى طعن بأصبعه في صدري وقال:"يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ".
هكذا رواه مختصرا وقد أخرجه مسلم مطولا أكثر من هذا .
طريق أخرى:قال [ الإمام] أحمد:حدثنا أبو نعيم ، حدثنا مالك - يعني ابن مغول - سمعت الفضل بن عمرو ، عن إبراهيم ، عن عمر قال:سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فقال:"يكفيك آية الصيف ". فقال:لأن أكون سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم . وهذا إسناد جيد إلا أن فيه انقطاعا بين إبراهيم وبين عمر ، فإنه لم يدركه .
وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا أبو بكر ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب قال:جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة ، فقال:"يكفيك آية الصيف ". وهذا إسناد جيد ، رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي بكر بن عياش ، به . وكأن المراد بآية الصيف:أنها نزلت في فصل الصيف ، والله أعلم .
ولما أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى تفهمها - فإن فيها كفاية - نسي أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن معناها ; ولهذا قال:فلأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم .
وقال ابن جرير:حدثنا ابن وكيع ، حدثنا جرير عن الشيباني ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن المسيب قال:سأل عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فقال:"أليس قد بين الله ذلك ؟ "فنزلت:( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة] ) الآية . وقال قتادة:ذكر لنا أن أبا بكر الصديق [ رضي الله عنه] قال في خطبته:ألا إن الآية التي أنزلت في أول "سورة النساء "في شأن الفرائض ، أنزلها الله في الولد والوالد . والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم . والآية التي ختم بها "سورة النساء "أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، والآية التي ختم بها "سورة الأنفال "أنزلها في أولي الأرحام ، بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، مما جرت الرحم من العصبة . رواه ابن جرير .
ذكر الكلام على معناها وبالله المستعان ، وعليه التكلان:
قوله تعالى:( إن امرؤ هلك ) أي:مات ، قال الله تعالى:( كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص:88] كل شيء يفنى ولا يبقى إلا الله ، عز وجل ، كما قال:( كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) [ الرحمن:26 ، 27] .
وقوله:( ليس له ولد ) تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد ، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد ، وهو رواية عن عمر بن الخطاب ، رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح إليه . ولكن الذي رجع إليه هو قول الجمهور وقضاء الصديق:أنه من لا ولد له ولا والد ، ويدل على ذلك قوله:( وله أخت فلها نصف ما ترك ) ولو كان معها أب لم ترث شيئا ; لأنه يحجبها بالإجماع ، فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن ، ولا والد بالنص عند التأمل أيضا ; لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد ، بل ليس لها ميراث بالكلية .
وقال الإمام أحمد:حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا أبو بكر بن عبد الله ، عن مكحول وعطية وحمزة وراشد ، عن زيد بن ثابت:أنه سئل عن زوج وأخت لأب وأم ، فأعطى الزوج النصف والأخت النصف . فكلم في ذلك ، فقال:حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بذلك .
تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وقد نقل ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت ترك بنتا وأختا:إنه لا شيء للأخت لقوله:( إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ) قال:فإذا ترك بنتا فقد ترك ولدا ، فلا شيء للأخت ، وخالفهما الجمهور ، فقالوا في هذه المسألة:للبنت النصف بالفرض ، وللأخت النصف الآخر بالتعصيب ، بدليل غير هذه الآية وهذه نصب أن يفرض لها في هذه الصورة ، وأما وراثتها بالتعصيب ; فلما رواه البخاري من طريق سليمان ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، قال:قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:النصف للابنة ، والنصف للأخت . ثم قال سليمان:قضى فينا ولم يذكر:على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي صحيح البخاري أيضا عن هزيل بن شرحبيل قال:سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت ، فقال:للابنة النصف ، وللأخت النصف ، وأت ابن مسعود فسيتابعني . فسئل ابن مسعود - وأخبر بقول أبي موسى - فقال:لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم للابنة النصف ، ولابنة الابن السدس ، تكملة الثلثين ، وما بقي فللأخت ، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود ، فقال:لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم .
وقوله:( وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ) أي:والأخ يرث جميع ما لها إذا ماتت كلالة ، وليس لها ولد ، أي:ولا والد ; لأنه لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئا ، فإن فرض أن معه من له فرض ، صرف إليه فرضه ; كزوج ، أو أخ من أم ، وصرف الباقي إلى الأخ ; لما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ".
وقوله:( فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ) أي:فإن كان لمن يموت كلالة ، أختان ، فرض لهما الثلثان ، وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما ، ومن هاهنا أخذ الجماعة حكم البنتين كما استفيد حكم الأخوات من البنات ، في قوله:( فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ) .
وقوله:( وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ) . هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين والإخوة إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم ، أعطي الذكر مثل حظ الأنثيين .
وقوله:( يبين الله لكم ) أي:يفرض لكم فرائضه ، ويحد لكم حدوده ، ويوضح لكم شرائعه .
وقوله:( أن تضلوا ) أي:لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان . ( والله بكل شيء عليم ) أي:هو عالم بعواقب الأمور ومصالحها وما فيها من الخير لعباده ، وما يستحقه كل واحد من القرابات بحسب قربه من المتوفى .
وقد قال أبو جعفر بن جرير:حدثني يعقوب ، حدثني ابن علية ، أنبأنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين قال:كانوا في مسير ، ورأس راحلة حذيفة عند ردف راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأس راحلة عمر عند ردف راحلة حذيفة . قال:ونزلت:( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) فلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة ، فلقاها حذيفة عمر ، فلما كان بعد ذلك سأل عمر عنها حذيفة فقال:والله إنك لأحمق إن كنت ظننت أنه لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيتكها كما لقانيها ، والله لا أزيدك عليها شيئا أبدا . قال:فكان عمر [ رضي الله عنه] يقول:اللهم إن كنت بينتها له فإنها لم تبين لي .
كذا رواه ابن جرير . ورواه أيضا عن الحسن بن يحيى ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين كذلك بنحوه . وهو منقطع بين ابن سيرين وحذيفة ، وقد قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في:حدثنا يوسف بن حماد المعني ، ومحمد بن مرزوق قالا:أخبرنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى ، حدثنا هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي عبيدة بن حذيفة ، عن أبيه:"نزلت الكلالة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم وإذا هو بحذيفة ، وإذا رأس ناقة حذيفة عند مؤتزر النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقاها إياه ، فنظر حذيفة فإذا عمر ، رضي الله عنه ، فلقاها إياه ، فلما كان في خلافة عمر نظر عمر في الكلالة ، فدعا حذيفة فسأله عنها ، فقال حذيفة:لقد لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيتك كما لقاني ، والله إني لصادق ، ووالله لا أزيد على ذلك شيئا أبدا .
ثم قال البزار:وهذا الحديث لا نعلم أحدا رواه إلا حذيفة ، ولا نعلم له طريقا عن حذيفة إلا هذا الطريق ، ولا رواه عن هشام إلا عبد الأعلى . وكذا رواه ابن مردويه من حديث عبد الأعلى .
وقال عثمان بن أبي شيبة:حدثنا جرير ، عن الشيباني ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد - [ هو] ابن المسيب - أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يورث الكلالة ؟ قال:فأنزل الله ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة] ) الآية ، قال:فكأن عمر لم يفهم . فقال لحفصة:إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نفس فسليه عنها ، فرأت منه طيب نفس فسألته عنها ، فقال:"أبوك ذكر لك هذا ؟ ما أرى أباك يعلمها ". قال:وكان عمر يقول:ما أراني أعلمها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال .
رواه ابن مردويه ، ثم رواه من طريق ابن عيينة ، عن عمرو ، عن طاوس:أن عمر أمر حفصة أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فأملاها عليها في كتف ، فقال:"من أمرك بهذا ؟ أعمر ؟ ما أراه يقيمها ، أوما تكفيه آية الصيف ؟ "قال سفيان:وآية الصيف التي في النساء:( وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ) ، فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت الآية التي هي خاتمة النساء ، فألقى عمر الكتف . كذا قال في هذا الحديث ، وهو مرسل .
وقال ابن جرير:حدثنا أبو كريب ، حدثنا عثام ، عن الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال:"أخذ عمر كتفا وجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال:لأقضين في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورهن . فخرجت حينئذ حية من البيت ، فتفرقوا ، فقال:لو أراد الله ، عز وجل ، أن يتم هذا الأمر لأتمه . وهذا إسناد صحيح .
وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري:حدثنا علي بن محمد بن عقبة الشيباني بالكوفة ، حدثنا الهيثم بن خالد ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، سمعت محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة يحدث عن عمر بن الخطاب قال:لأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث أحب إلي من حمر النعم:من الخليفة بعده ؟ وعن قوم قالوا:نقر في الزكاة من أموالنا ولا نؤديها إليك ، أيحل قتالهم ؟ وعن الكلالة . ثم قال:صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . ثم روي بهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن مرة ، عن مرة ، عن عمر قال:ثلاث لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها:الخلافة ، والكلالة ، والربا . ثم قال:صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
وبهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة قال:سمعت سليمان الأحول يحدث ، عن طاوس قال:سمعت ابن عباس قال:كنت آخر الناس عهدا بعمر ، فسمعته يقول:القول ما قلت:قلت:وما قلت ؟ قال:قلت:الكلالة ، من لا ولد له . ثم قال:صحيح على شرطهما ولم يخرجاه .
وهكذا رواه ابن مردويه من طريق زمعة بن صالح ، عن عمرو بن دينار وسليمان الأحول ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال:كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب ، قال:اختلفت أنا وأبو بكر في الكلالة ، والقول ما قلت . قال:وذكر أن عمر شرك بين الإخوة للأب وللأم ، وبين الإخوة للأم في الثلث إذا اجتمعوا ، وخالفه أبو بكر ، رضي الله عنهما .
وقال ابن جرير:حدثنا ابن وكيع ، حدثنا محمد بن حميد المعمري ، عن معمر عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب:أن عمر كتب في الجد والكلالة كتابا ، فمكث يستخير الله فيه يقول:اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه ، حتى إذا طعن دعا بكتاب فمحي ، ولم يدر أحد ما كتب فيه . فقال:إني كنت كتبت في الجد والكلالة كتابا ، وكنت استخرت الله فيه ، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه .
قال ابن جرير:وقد روي عن عمر ، رضي الله عنه ، أنه قال:إني لأستحي أن أخالف فيه أبا بكر . وكأن أبو بكر ، رضي الله عنه ، يقول:هو ما عدا الولد والوالد .
وهذا الذي قاله الصديق عليه جمهور الصحابة والتابعين والأئمة ، في قديم الزمان وحديثه ، وهو مذهب الأئمة الأربعة ، والفقهاء السبعة . وقول علماء الأمصار قاطبة ، وهو الذي يدل عليه القرآن ، كما أرشد الله أنه قد بين ذلك ووضحه في قوله:( يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ) .