وقوله:( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ )
يقول تعالى ذكره:وإن الإنسان لحب المال لشديد.
واختلف أهل العربية في وجه وصفه بالشدة لحب المال, فقال بعض البصريين:معنى ذلك:وإنه من أجل حب الخير لشديد:أي لبخيل; قال:يقال للبخيل:شديد ومتشدد. واستشهدوا لقوله ذلك ببيت طرفة بن العبد البكري:
أرَى المَـوْتَ يَعْتـامُ النُّفُوسَ ويَصْطَفِي
عَقِيلَــةَ مــالِ البــاخِلِ المُتَشَـددِ (2)
وقال آخرون:معناه:وإنه لحب الخير لقوي.
وقال بعض نحويي الكوفة:كان موضع ( لِحُبِّ ) أن يكون بعد شديد, وأن يضاف شديد إليه, فيكون الكلام:وإنه لشديد حب الخير; فلما تقدم الحب في الكلام, قيل:شديد, وحذف من آخره, لما جرى ذكره في أوله ولرءوس الآيات, قال:ومثله في سورة إبراهيم:كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍوالعصوف لا يكون لليوم, إنما يكون للريح; فلما جرى ذكر الريح قبل اليوم طرحت من آخره, كأنه قال:في يوم عاصف الريح, والله أعلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس, قال:أخبرنا ابن وهب, قال:قال ابن زيد, في قوله:( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) قال:الخير:الدنيا; وقرأ:إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُقال:فقلت له:إِنْ تَرَكَ خَيْرًا:المال؟ قال:نعم, وأي شيء هو إلا المال؟ قال:وعسى أن يكون حراما, ولكن الناس يعدونه خيرا, فسماه الله خيرا, لأن الناس يسمونه خيرا في الدنيا, وعسى أن يكون خبيثا, وسمي القتال في سبيل الله سوءا, وقرأ قول الله:فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌقال:لم يمسسهم قتال; قال:وليس هو عند الله بسوء, ولكن يسمونه سوءا.
وتأويل الكلام:إن الإنسان لربه لكنود, وإنه لحب الخير لشديد, وإن الله على ذلك من أمره لشاهد. ولكن قوله:( وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ) قدم, ومعناه التأخير, فجعل معترضا بين قوله:( إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) , وبين قوله:( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ )
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد, قال:ثنا مهران, عن سعيد, عن قتادة (إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) قال:هذا في مقاديم الكلام, قال:يقول:إن الله لشهيد أن الإنسان لحب الخير لشديد.
------------------------
الهوامش:
(2) البيت لطرفة بن العبد ( مختار الشعر الجاهلي 318 ) في معلقته . وفيه:"يعتام الكرام ". قال شارحه:يعتام:يختار . والعقيلة:الخيار من كل شيء . والفاحش:البخيل الحريص . يقول:أرى الموت يختار كرام الناس ، وصفوة مال البخلاء ، أي:يأخذ النفيس الذي يضن به ، كما يأخذ الحقير ، فلا يترك شيئا . ا هـ . وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن ( 189 ){ وإنه لحب الخير لشديد}:وإنه من أجل حب الخير لشديد:لبخيل ، يقال للبخيل:شديد ومتشدد ؛ قال طرفة:"أرى الموت يعتام النفوس ... "البيت .