وقوله ( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) يقول:لقال هؤلاء المشركون الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم:ما هذا بحقّ إنما سكِّرت أبصارنا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( سُكِّرَتْ ) فقرأ أهل المدينة والعراق:( سُكِّرَتْ ) بتشديد الكاف، بمعنى:غُشيت وغطيت، هكذا كان يقول أبو عمرو بن العلاء فيما ذُكر لي عنه. وذُكر عن مجاهد أنه كان يقرأ ( لَقالُوا إنَّمَا سُكِرَتْ ).
حدثني بذلك الحرث، قال:ثنا القاسم، قال:سمعت الكسائي يحدّث عن حمزة، عن شبل، عن مجاهد أنه قرأها( سُكِرَتْ أَبْصارُنا ) خفيفة ، وذهب مجاهد في قراءته ذلك كذلك إلى:حُبست أبصارنا عن الرؤية والنظر من سكور الريح، وذلك سكونها وركودها، يقال منه:سكرت الريح:إذا سكنت وركدت. وقد حُكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول:هو مأخوذ من سكر الشراب، وأن معناه:قد غشَّى أبصارنا السكر.
وأما أهل التأويل ، فإنهم اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم:معنى ( سُكِّرَتْ ):سدّت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال:ثنا أبو عاصم، قال:ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال:ثنا شبابة، قال:ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال:ثنا أبو حذيفة، قال:ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال:أخبرنا إسحاق، قال:ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) قال:سدّت.
حدثنا القاسم، قال:ثنا الحسين، قال:ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال:ثنا حجاج، يعني ابن محمد، عن ابن جريج، قال:أخبرني ابن كثير قال:سدّت.
حُدثت عن الحسين، قال:سمعت أبا معاذ يقول:أخبرنا عبيد، قال:سمعت الضحاك يقول، في قوله ( سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) يعني:سدّت ، فكأن مجاهدا ذهب في قوله ، وتأويله ذلك بمعنى:سدّت، إلى أنه بمعنى:منعت النظر، كما يُسكر الماء فيمنع من الجري بحبسه في مكان بالسكر الذي يسَّكر به.
وقال آخرون:معنى سكرت:أخذت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال:ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن ابن عباس ( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) يقول:أخذت أبصارنا.
حدثني محمد بن سعد، قال:ثني أبي، قال:ثني عمي، قال:ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، إنما أخذ أبصارنا، وشبَّه علينا، وإنما سحرنا.
حدثنا القاسم، قال:ثنا الحسين، قال:ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة ( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) يقول:سُحرت أبصارنا، يقول:أخذت أبصارنا.
حدثني المثنى، قال:ثنا إسحاق، قال:ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال:ثنا شيبان، عن قتادة، قال:من قرأ ( سُكِّرَتْ ) مشددة:يعني سدّت ، ومن قرأ ( سُكرَتْ ) مخففة، فإنه يعني سحرت ، وكأن هؤلاء وجَّهوا معنى قوله ( سُكِّرَتْ ) إلى أن أبصارهم سُحرت، فشبه عليهم ما يبصرون، فلا يميزون بين الصحيح مما يرون وغيره من قول العرب:سُكِّر على فلان رأيه:إذا اختلط عليه رأيه فيما يريد ، فلم يدر الصواب فيه من غيره، فإذا عزم على الرأي قالوا:ذهب عنه التسكير.
وقال آخرون:هو مأخوذ من السكر، ومعناه:غشي على أبصارنا فلا نبصر، كما يفعل السكر بصاحبه، فذلك إذا دير به وغشي بصره كالسمادير فلم يبصر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال:أخبرنا ابن وهب، قال:قال ابن زيد، في قوله ( إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) قال:سكرت، السكران الذي لا يعقل.
وقال آخرون:معنى ذلك:عميت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن محمد، قال:ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن الكلبي ( سُكِّرَتْ ) قال:عميت.
وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي قول من قال:معنى ذلك:أخذت أبصارنا وسحرت، فلا تبصر الشيء على ما هو به، وذهب حدّ إبصارها ، وانطفأ نوره، كما يقال للشيء الحارّ إذا ذهبت فورته ، وسكن حدّ حرّه ، قد سكر يسكر ، قال المثنى بن جندل الطُّهوي:
جــاءَ الشِّــتاءُ واجْثَــألَّ القُــبَّرُ
واسـتَخْفَتِ الأفْعَـى وكـانت تَظْهَـرُ
وجَعَلَتْ عينُ الحَرُور تَسْكُرُ (7)
أي تسكن وتذهب وتنطفئ ، وقال ذو الرّمَّة:
قَبْــلَ انْصِــداعِ الفَجْـرِ والتَّهَجْـرِ
وخَــوْضُهُنَّ اللَّيــلَ حـينَ يَسْـكُرُ (8)
يعني:حين تسكن فورته. وذُكر عن قيس أنها تقول:سكرت الريح تسكر سكورا، بمعنى:سكنت ، وإن كان ذلك عنها صحيحا، فإن معنى سُكِرَت وسُكِّرَتْ بالتخفيف والتشديد متقاربان، غير أن القراءة التي لا أستجيز غيرها في القرآن ( سُكِّرَتْ ) بالتشديد لإجماع الحجة من القراء عليها، وغير جائز خلافها فيما جاءت به مجمعة عليه.
------------------------
الهوامش:
(7) هذه ثلاثة أبيات لجندل بن المثنى الطهوي ، واجثأل:اجتمع وتقبض ، والقبر كالقنبر:ضرب من الطير كالعصافير ، واحده قبرة وقنبرة ، والحرور:الحر . ويقال سكرت عينه تسكر:إذا تحيرت وسكنت عن النظر وسكر الحر يسكر:سكن وخبأ ، وقد استشهد بها أبو عبيدة في مجاز القرآن ( 1:337 ، 338 ) عند قوله تعالى "سكرت أبصارنا "قال:أي غشيت سمادير ، فذهبت وخبا نظرها ، قال:جاء الشتاء ، الخ وزاد فيها بيتا قبل الآخر ، وهو:"وطلعت شمس عليها مغفر ". وفسر البيت الأخير وهو الشاهد بقوله:أي يذهب حرها ويخبو . وقال أبو عمرو بن العلاء:"سكرت أبصارنا ":مأخوذ عن سكر الشراب ، كأن العين لحقها ما يلحق شارب المسكر إذا سكر ، وقال الفراء ، معناه:حبست ومنعت عن النظر .
(8) البيت في ديوان ذي الرمة ( طبعة كيمبردج سنة 1919 ) ص 202 وقبله:
أتَتْــكَ بــالقَوْمِ مَهــارٍ ضُمَّــرُ
خُــوصٌ بَــرَى أشْـرافَها التَّبَكُّـرُ
خوص:غائرات العيون ، وأشرافها:أسنمَها ، والتبكر:سير البكرة ، والتهجو:سير الهاجرة ، ويسكر:يتسكر الأبصار بظلامه ، قوله:والتهجر ، بالرفع:معطوف على قوله التبكر ، في البيت السابق عليه .