وبعد أن أشار- سبحانه- إلى علم الرسالة التي هيأ لها عيسى- عليه السّلام- عقب ذلك ببيان القوم الذين أرسل إليهم فقال- تعالى- وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أى أن الله- تعالى- سيجعل عيسى- عليه السّلام- رسولا إلى بنى إسرائيل لكي يهديهم إلى الصراط المستقيم، ولكي يبشرهم برسول يأتى من بعده هو خاتم الأنبياء والمرسلين، ألا وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وخص بنى إسرائيل بالذكر مع أن رسالة عيسى كانت إليهم وإلى من علمها من الرومان:
لأن بنى إسرائيل خرج عيسى من بينهم فهو منهم، ولأنهم هم الذين كانوا يدعون أنهم أولى الناس بعلم الرسائل الإلهية، وكانت دعوته بينهم وانبعثت منهم إلى غيرهم، فكان تخصيصهم بالذكر فيه إشارة إلى حقيقة واقعة وفيه توبيخ لهم، لأنهم أوتوا العلم برسالات الأنبياء ومع ذلك فقد كفر كثير منهم بعيسى وبغيره من رسل الله، بل لم يكتفوا بالكفر وإنما آذوا أولئك الرسل الكرام وقتلوا فريقا منهم.
وقوله وَرَسُولًا منصوب بمضمر يقود إليه المعنى، معطوف على وَيُعَلِّمُهُ أى يعلمه ويجعله رسولا إلى بنى إسرائيل.
وقوله أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ معمول لقوله رَسُولًا لما فيه من معنى النطق. كأنه قيل:ورسولا ناطقا بأنى قد جئتكم يا بنى إسرائيل بآية من ربكم.
والباء للملابسة وهي مع مدخولها في محل الحال وقوله مِنْ رَبِّكُمْ متعلق بمحذوف صفة لآية. والمراد بالآية هنا المعجزات التي أكرمه الله بها.
أى:أن الله- تعالى- قد علم عيسى- عليه السّلام- الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعله رسولا إلى بنى إسرائيل مخبرا إياهم بأنى رسول الله إليكم حال كوني ملتبسا مجيئي بالمعجزات الدالة على صدقى، وهذه المعجزات ليست من عندي وإنما هي من عند ربكم.
ثم ذكر- سبحانه- خمسة أنواع من معجزات عيسى- عليه السّلام- أما المعجزة الأولى فعبر عنها بقوله:أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ.
قال الآلوسى:«وقوله أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ.. ألخ.. بدل من قوله أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ أو من بِآيَةٍ أو منصوب على المفعولية لمحذوف أى أعنى أنى أخلق لكم.. أو مرفوع على أنه خبر لمقدر أى أنى قد جئتكم بآية من ربكم هي أنى أخلق لكم. وقرأ نافع بكسر الهمزة على الاستئناف، والمراد بالخلق التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإيجاد من العدم» .
والمعنى أن عيسى- عليه السّلام- قد حكى الله- عنه أنه قال لبنى إسرائيل:لقد أرسلنى الله إليكم لأبلغكم دعوته، ولآمركم بإخلاص العبادة له، وقد أعطانى- سبحانه- من المعجزات ما يقنعكم بصدقى فيما أبلغه عن ربي، ومن بين هذه المعجزات أنى أقدر على أن أصور لكم من الطين شيئا صورته مثل صورة الطير، فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير فيكون طيرا حقيقيا ذا حياة بإذن الله أى بأمره وإرادته.
فأنت ترى أن الجملة الكريمة قد اشتملت على ثلاثة أعمال:ثنتان منهما لعيسى وهما تصوير الطين كهيئة الطير ثم النفخ فيه. أما الثالث فهو من صنع الله- تعالى- وحده ألا وهو خلق الحياة في هذه الصورة التي صورها عيسى ونفخ فيها. وهذا يدل دلالة واضحة على أنه ليس في عيسى ألوهية ولا أى معنى من معانيها. ولذا حكى الله- تعالى- عنه أنه قال:بِإِذْنِ اللَّهِ.
أى أنى ما فعلت الذي فعلته إلا بإذن الله وأمره وإرادته وتيسيره، واللام في قوله لَكُمْ للتعليل أى أصور لأجل هدايتكم وتصديقكم بي.
والكاف في قوله كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بمعنى مثل وهي نعت لمفعول محذوف أى أخلق شيئا مثل هيئة الطير، والهيئة هي الصورة والكيفية.
والضمير في قوله فَأَنْفُخُ فِيهِ يعود إلى هذا المفعول المحذوف.
وقوله بِإِذْنِ اللَّهِ متعلق بيكون، وجيء به لإظهار العبودية، ونفى توهم أن يكون عيسى أو غيره شريكا الله في خلق الكائنات.
وأما النوع الثاني والثالث والرابع من المعجزات فقد حكاه القرآن في قوله- تعالى- وَأُبْرِئُ أى أشفي يقال:برأ المريض يبرأ أو يبرؤ برءا وبروءا إذا شفى من مرضه.
والأكمه:هو الذي يولد أعمى. يقال كمه كمها إذا ولد أعمى، فهو أكمه وامرأة كمهاء.
والأبرص:هو الذي يكون في جلده بياض مشوب بحمرة وهو مرض من الأمراض المنفرة التي عجز الأطباء عن شفائها.
والمعنى:أن عيسى- عليه السّلام- قال لقومه:والمعجزات التي تدل على صدقى أن أشفى وأعيد الإبصار إلى من ولد أعمى، وأعيد الشفاء إلى من أصيب بمرض البرص، وأعيد الحياة إلى من مات. ولا أفعل كل ذلك بقدرتي وعلمي وإنما أفعله بإذن الله وبإرادته وأمره.
وخص إبراء الأكمه والأبرص بالذكر لأنهما مرضان عضالان لم يصل الطب إلى الآن إلى طريق للشفاء منهما فإذا أجرى الله- تعالى- على يد عيسى الشفاء منهما كان ذلك دليلا على أن من وراء الأسباب والمسببات خالقا مختارا لا يعجزه شيء وعلى أن الأسباب ليست مؤثرة بذاتها في الإيجاد أو الإعدام وإنما المؤثر هو الله- تعالى- وقوله وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ فيه تدرج من الصعب إلى الأصعب، لأن مما لا شك فيه أن إحياء الموتى خارق عظيم، يدل دلال قاطعة على أن الأسباب العادية ليست هي المؤثرة وإنما الخالق المكون هو المؤثر وأن الأشياء لم تخلق بالعلية- كما يقول الماديون- وإنما خلقت بالإرادة المختارة والقدرة المبدعة المنشئة المكونة، وهي إرادة خالق الكون وقدرته سبحانه.
وقيد ما يقوم به من إبراء وإحياء بأنه بإذن الله:للتنبيه على أن ما يفعله من خوارق إنما هو بأمر الله وتيسيره وإرادته.
وقد ذكر المفسرون أن إبراء عيسى للأكمة والأبرص وإحياءه للموتى كان عن طريق الدعاء، وكان دعاؤه يا حي يا قيوم، وذكروا من بين من أحياهم سام بن نوح.
قال ابن كثير:بعث الله كل نبي بمعجزة تناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان موسى السحر وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحّار، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام. وأما عيسى فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص؟ وكذلك محمد صلّى الله عليه وسلّم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاويد الشعراء فأتاهم بكتاب من الله لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بسورة من مثله ما استطاعوا أبدا، وما ذاك إلا أن كلام الرب لا يشبه كلام الخلق» .
وأما المعجزة الخامسة فقد حكاها القرآن في قوله- تعالى- وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ.
وقوله- تعالى- وَأُنَبِّئُكُمْ من الإنباء وهو الإخبار بالخبر العظيم الشأن.
وقوله تَدَّخِرُونَ من الادخار وهو إعداد الشيء لوقت الحاجة إليه. يقال:دخرته وادخرته، إذ أعدته للعقبى. وأصله «تذتخرون» بالذال المعجمة- من اذتخر الشيء- بوزن افتعل- فأبدلت التاء دالا ثم أبدلت الذال دالا وأدغمت.
والمعنى:أن عيسى- عليه السّلام- قد قال لقومه بنى إسرائيل:وإن من معجزاتي التي تدل على صدقى فيما أبلغه عن ربي أنى أخبركم بالشيء الذي تأكلونه وبالشيء الذي تخبئونه في بيوتكم لوقت حاجتكم إليه.
قال القرطبي:وذلك أنه لما أحيا لهم الموتى طلبوا منه آية أخرى وقالوا:أخبرنا بما نأكل في بيوتنا وما ندخر للغد، فأخبرهم فقال:يا فلان أنت أكلت كذا وكذا، وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا فذلك قوله وَأُنَبِّئُكُمْ .
و «ما» في الموضعين موصولة، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أى بما تأكلونه وتدخرونه.
ولا شك أن إخبار عيسى- عليه السّلام- لقومه بالشيء الذي يأكلونه وبالشيء الذي يدخرونه يدل على صدقه، لأن هذا الإخبار الغيبى بما لم يعاينه دليل على أن الله- تعالى- قد أعطاه علم ما أخبر به.
ثم ختم الله- تعالى- هذه الآية بقوله:إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أى إن في ذلك المذكور من المعجزات التي أجراها الله- تعالى- على يد عيسى- عليه السلام- لدلالة واضحة وعلامة بينة تشهد بصدقه فيما يبلغه عن ربه، إن كنتم يا بنى إسرائيل ممن يصدق بآيات الله ويذعن لها.
فاسم الإشارة «ذلك» يعود إلى ما سبق ذكره من معجزات عيسى- عليه السّلام- وجواب الشرط محذوف والتقدير:إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآيات وأذعنتم للحق الذي جئتكم به من عند الله.