{ ورسولا إلى بني إسرائيل} أي يرسله أو يجعله ( بالياء أو النون ) رسولا إلى بني إسرائيل .فحذف لفظ يرسله أو يجعله لدلالة الكلام عليه ، كما قال الشاعر:
ورأيت روحك في الوغى *** متقلدا سيفا ورمحا{[307]}
وقال الأستاذ الإمام:إن الرسول هنا بمعنى الرسالة .والتقدير ويعلمه الرسالة إلى بني إسرائيل ، واستعمال لفظ الرسول بمعنى الرسالة شائع .قال كثير:
لقد كذب الواشون ، ما بحت عندهم *** بسر ولا أرسلتهم برسول{[308]}
وفي رواية"برسيل ".قال:وبعض المفسرين يجعل الرسول بمعنى الناطق أي ناطقا إلى بني إسرائيل{ أني قد جئتكم بآية من ربكم} أقول:والمعنى على التقدير الأول انه يرسله محتجا على صدق رسالته بأني قد جئتكم بآية من ربكم .وفسر الآية بقوله:{ أني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله} قال الأستاذ الإمام:الخلق التقدير والترتيب لا الإنشاء والاختراع ويقرب ان يكون هذا إجماعا من المفسرين ، وفسره الجلال هنا بالتصوير لأنه من التقدير .
أقول:وذكر الجلال كغيره أنه كان يتخذ من الطين صورة خفاش ، فينفخ فيها فتحلها الحياة وتتحرك في يده ، وقال بعضهم بل تطير قليلا ثم تسقط .قال الأستاذ الأمام:ولا حاجة إلى هذه التفصيلات بل نقف عند لفظ الآية .وغاية ما يفهم منها إن الله تعالى جعل هذا السر ولكن لم يقل أنه خلق بالفعل ، ولم يرد عن المعصوم أن شيئا من ذلك وقع ، وقد جرت سنة الله تعالى أن تجري الآية على أيدي الأنبياء عند طلب قومهم لها وجعل الإيمان موقوفا عليها فإن كانوا سألوه شيئا من ذلك فقد جاء به وكذلك يقال في قوله:{ وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} فإن قصارى ما تدل عليه العبارة أنه خص بذلك وأمر بأن يحتج به .والحكمة في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إقامة الحجة على منكري نبوته كما تقدم وأما وقوع ذلك كله أو بعضه بالفعل فهو يتوقف على نقل يحتج به في مثل ذلك .
هذا ما قاله الأستاذ الإمام .ومن الغريب أن ابن جرير يروي عن ابن إسحاق"إن عيسى صلوات الله عليه جلس يوما مع غلمان من الكتاب فأخذ طينا ثم قال أجعل لكم من هذا الطين طائرا ، قالوا وتستطيع ذلك ؟ قال نعم بإذن ربي ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر فنفخ فيه ، ثم قال كن طائرا بإذن الله فخرج يطير بين كفيه "فكأنه اتخذ آية الله على رسالته ألعوبة للصبيان .والحاصل أنه ليس عندنا نقل صحيح بوقوع خلق الطير بل ولا عند النصارى الذين يتناقلون وقوع سائر الآيات المذكورة في الآية إلا ما في إنجيل الصبا أو الطفولة من نحو ما قال ابن إسحاق وهو من الأناجيل غير القانونية عندهم .ولعل آية سورة المائدة أدنى إلى الدلالة على الوقوع من هذه الآية وهي{ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا ، وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني ، وإذ تبرئ الأكمه والأبرص بإذني ، وإذ تخرج الموتى بإذني ، وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات} [ المائدة:110] فإن جعل ذلك كله متعلق النعمة يؤذن بوقوعه إلا أن يقال إن جعل هذه الآيات مما يجرى على يديه عند طلبه منه والحاجة إلى تحديه به من اجل النعم وأعظمها ولكن هذا خلاف ظاهر .
ومقتضى مذهب الصوفية أن روحانية عيسى كانت غالبة على جثمانيته أكثر من سائر الروحانيين لأن أمه حملت به من الروح الذي تمثل لها بشرا سويا فكان تجرده من المادة الكثيفة للتصرف بسلطان الروح من قبيل الملكة الراسخة فيه .وبذلك كان إذا نفخ من روحه في صورة رطبة من الطين تحلها الحياة حتى تهتز وتتحرك وإذا توجه بروحانيته إلى روح فارقت جسدها أمكنه أن يستحضرها ويعيد اتصالها ببدنها زمنا ما ، ولكن روحانية البشر لا تصل إلى درجة إحياء من مات فصار رميما .ويؤيد ذلك ما ينقله النصارى من إحياء المسيح للموتى .فإنهم قالوا إنه أحيا بنتا قبل أن تدفن وأحيا اليعازر قبل أن يبلى ولم ينقل أنه أحيا ميتا كان رميما .وأما إبراء الأكمه والأبرص بالقوة الروحانية فهو أقرب إلى ما يعهد الناس لاسيما مع اعتقاد المريض .ويقول مجاهد:إن الأكمه من لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار .والمشهور أنه من ولد أعمى .وأما الأخبار ببعض المغيبات فقد أوتيه كثيرون من الأنبياء وممن دون الأنبياء .
{ إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} أي إن فيما ذكر لحجة لكم على صدق رسالتي إن كنتم مؤمنين بالله مصدقين بقدرته الكاملة .
ومن مباحث اللفظ:أن قوله"فأنفخ فيه "يعود إلى الطير أو إلى ما ذكر .