[ ورسولاً إلى بني إسرائيل] .
وتنتقل العجائبيّة من ذات الإنسان في ولادته ،إلى طبيعة الممارسات في حياته ،فقد أرسله اللّه إلى بني إسرائيل الذين تمرّدوا على اللّه ،وكذّبوا رُسُلَه وقتلوهم وواجهوهم بمختلف التحدّيات الصعبة ،فلا بُدَّ من مواجهتهم بأسلوب حاسم يقهر تمرّدهم ،ويفضح أساليبهم ويوقفهم عند حدّهم ،تماماً كما فعل موسى ( ع ) مع السحرة فوقعوا له ساجدين .وأيّ أسلوب أعظم من المعجزة التي تتحدّى قدرات المجتمع في ثقافته وفعاليّته: [ أنّي قد جئتكم بآية من ربِّكم أنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللّه] ؟!
[ وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن اللّه] وكان الطب هو الغالب عليهمفي ما يُقالوماذا يستطيع الطب أن يصنع للإنسان إلاَّ أن يُعالج حركة الحياة لتتوازن ،ويخفّف الآلام لتهدأ ،ويبلسم الجراح لتلتئم ...ولكنَّه لن يستطيع أن يُعطي الحياة للجماد ،أو يمنح البصر لمن يولد بلا بصروهذا هو معنى الأكمةأو يشفي الأبرص بمجرّد اللمس ،أو يُعيد الحياة إلى الموتى من جديد ...ولكن المسيح ( ع ) يستطيع ذلك بإذن اللّه الذي أعطاه من قدرته التي تمثِّل الإذن التكويني في حركة القدرة بالأسلوب غير المألوف ...ولا يقف عند ذلك ،بل يتقدّم في المعجزة ليُخبرهم عمّا يأكلون ويدّخرون في بيوتهم مما لا يحيط به الإنسان من وراء الغيب الذي يختفي خلف الصدور والجدران [ وأنبئكم بما تأكلون وما تدَّخرون في بيوتكم] ومن المعروف لديهم أنَّ عيسى( ع ) لم يستند إلى أيّة ثقافةٍ خاصةٍ أو عامّة في ذلك ،أو في بعض ذلك ،لا سيّما في الأمور التي لا تصل إليها القدرات الإنسانية مهما ارتفعت ،ولذلك أكّد لهم أنَّ في هذه الظواهر الخارقة للعادة آية لهم [ إنَّ في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين] بالآيات التي تقدّم إليكم ،من أجل أن تركّز لكم قناعاتكم على أساس البراهين الواضحة التي لا يملك الإنسان معها إلاَّ أن يرضخ للإيمان في كلِّ مفاهيمه وحقائقه ومتطلّباته ...وتلك هي قصّة النبوّات ،فهي تقود الإنسان نحو الإيمان بالمعجزة التي لا تقبل الشكّ من قريب أو من بعيد .
ولنا هنا ملاحظات:
رسول لبني إسرائيل أم للبشر ؟
هل كان عيسى ( ع ) رسولاً إلى بني إسرائيل دون غيرهم ؟
ربَّما توحي فقرة: [ ورسولاً إلى بني إسرائيل] بالخصوصية ،وربَّما يُنافي ذلك ما هو المشهور من أنَّ عيسى ( ع ) من أنبياء أولي العزم الذين يتميزون بأنَّ رسالتهم تمثِّل ديناً جديداً ينتهي إليه الدين الذي جاء قبله ،ما يعني بالصفة العالمية لهم ،لأنَّ الدين الجديد لا يأتي لجماعة خاصة من النّاس .
وربَّما يُجاب بأنَّ هناك فرقاً بين الرسول والنبيّ ،فإنَّ «النبوّة هي منصب البعث والتبليغ ،والرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم والقضاء بالحقِّ بين النّاس ،إمّا بالبقاء والنعمة ،أو بالهلاك ،كما يفيده قوله تعالى: [ ولكلِّ أمّةٍ رسولٌ فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط] ( يونس:47 ) .وبعبارةٍ أخرى ،النبيّ هو الإنسان المبعوث لبيان الدين للنّاس ،والرسول هو المبعوث لأداء بيانٍ خاص يستتبع ردّه الهلاك وقبوله البقاء والسعادة » .
وخلاصة الفكرة أنَّ لعيسى ( ع ) صفتين ،النبوّة العامّة من حيث هو صاحب دين ،والرسالة من حيث هو حاكم وقاضٍ بين النّاس .وربَّما كان المراد من كونه رسولاً إلى بني إسرائيل ،أنَّهم الجماعة الذين يواجههم بالرسالة في حركته الأولى ،باعتبار أنَّ لكلِّ دين منطلقاً من الموقع والأشخاص الذين تبدأ الرسالة من ساحتهم ،وتتحرّك في قضاياهم ،لترتكز على قاعدةٍٍ متينةٍ ثابتة يجمع فيها النبيّ المؤمنين به ،ويلتقي بحواريّيه ويثقف الدعاة إلى دينه والمجاهدين في سبيله ،ليكون دوره فيهم دور التجربة الأولى التي يبدأ بها خطّ تجاربه الأخرى في المستقبل .وفي ضوء ذلك لا يكون الحديث عن رسالته إلى بني إٍسرائيل حديثاً عن الدائرة المحدودة التي يتحرّك فيها عيسى ( ع ) في حركته الدينية الرسالية ،بل يكون حديثاً عن المنطلق الذي تبدأ به المهمة الرسالية حركيتها في الحياة ؛واللّه العالم .
هل صدرت المعجزة عن عيسى ( ع ) ؟
هل قام عيسى ( ع ) بالمعجزات في حياته بطريقةٍ فعلية ،أم أنَّه كان يتحدّث عن قدرته على ذلك في دائرة الشأنية من دون أن يُمارس ذلك فعلاً ؟
ذكر بعض المفسِّرينومنهم صاحب المنارأنَّ المسيح اكتفى بمجرّد الادعاء بأنَّه يفعل كذا وكذا بإذن اللّه ،ولكنَّه لم يفعل منها شيئاً أبداً .
وربَّما كان الأساس في هذا الرأي ،هو استبعاد حدوث المعجزات في طبيعتها العجائبية الخارقة للعادة ،ما يفرض على الباحث تأويلها بالطريقة التي تتوافق مع القوانين الطبيعية بشكلٍ وبآخر ،وهذا ما درجت عليه بعض المدارس الإسلامية الفكرية أو التفسيرية التي حاولت أن تقدّم المضمون القرآني أو الديني بشكلٍ عام بطريقة عقلية لا تتنافى مع التصوّر العام الذي ينفتح على الأمور بطريقة الحسابات المادية .
ولكنَّنا نلاحظ أنَّ بعض هذه المعجزات ،كما في عصا موسى ( ع ) ،لا مجال لتأويلها وتفسيرها طبيعياً .
ثُمَّ إنَّ إطلاق السؤال عن السبب الذي يفرض مثل ذلك ،أيعني استبعاداً لخرق قوانين الطبيعة من قبل الأنبياء ؟ولكن المسألة تتصل بإذن اللّه وقدرته التي تحوّل العصا ثعباناً والنّار برداً وسلاماً ،وتحيي الموتى وتبرئ الأكمه والأبرص ،وتمنح الإنسان القدرة على اختراق حواجز الأسرار الذاتية الراقدة في عالم الخفاء .
أليس الدين بذاته حالةً غيبية تنطلق من الأسلوب غير العادي في إنزال الوحي على النبيّ ؟
وما المشكلة في أن يحرّك اللّه قدرته ليهيئ السُبُل لرسله في الوقوف أمام التحدّيات بقوّة ،ليكونوا في الموقع الأعلى لا الأسفل ،من أجل أن تكون كلمة اللّه العليا وكلمة الكافرين السفلى ،كما قال اللّه سبحانه لموسى ( ع ): [ قلنا لا تخف إنَّك أنت الأعلى] ( طه:68 ) فكانت المعجزة خلقاً جديداً للأسباب الخفية في مواجهة الأسباب الأخرى الظاهرة .
إنَّ الغيب من أمر اللّه كما هو الشهود من أمره ،واللّه يحرّك غيبه في مواقع إرادته كما يحرّك الشهود ،لأنَّه يتساوى لديه عالم الغيب وعالم الحسّ ،ولهذا فلا بُدَّ لنا من أن نتقبّل المعجزة في عنوانها الغيبي الإلهي بإيمان وتسليم ،كما نتقبّل الأمور الطبيعية الأخرى .
وإذا كان الآخرون لا يقبلون التسليم بالأمور الغيبية في الدُّنيا من خلال المعجزة التي يجريها اللّه على أيدي رسله ،أو الكرامة التي يكرم اللّه بها أولياءه ؛فيُحاولون إنكارها لننطلق إلى إقناعهم بها بطريقة مادية ،فكيف يمكن إقناعهم بالغيب في عالم الألوهية ،أو في عالم الآخرة ؟!
هذا من الناحية العامّة ،وفي الجانب الخاص ،فإنَّ النص القرآني يؤكّد حدوث هذه الأمور من النبيّ عيسى( ع ) ،وذلك هو قوله تعالى: [ إذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك] ،إلى أن قال: [ وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تُخرج الموتى بإذني] ( المائدة:110 ) .
والقضيةكما أشرنالا تمثِّل أيّ انحراف عن خطّ العقيدة التوحيدية التي تجعل اللّهوحدهمصدر كلّ خلق ،والفاعل لكلّ شيء ،لأنَّ النبيّ لا يملك شيئاً من كلِّ ما يصدر عنه من معاجز وكرامات بنفسه ،لأنَّه لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً إلاَّ باللّه ،بل إنَّ اللّه هو الفاعل لذلك كلّه ،الذي أجرى الأمور على يد نبيّه أو وليه من خلال المصلحة التي يحدّدها بحكمته ويؤكّدها بقدرته .
الولاية التكوينية:
ربَّما يتصوّر بعض العلماء أنَّ هذه الآية تدل على أنَّ اللّه جعل لأنبيائه ورسله ولاية تكوينية ،يتصرّفون من خلالها بالكون ،فيغيرون الأشياء وينقلونها من حالٍ إلى حال ،ويجمّدون الأسباب ويصنعون أسباباً جديدة للأشياء بإذن اللّه من خلال ما أعطاهم اللّه من السلطة على الكون في حركة التكوين ،كما أعطاهم السلطة الشرعية في إدارة شؤون النّاس وحكمهم وبثّ قوانين الشريعة بينهم وهدايتهم إلى دينه .
وقد أخذت نظرية ( الولاية التكوينية ) بُعداً عقائدياً حاسماً متنوّعاً في تضييق المسألة لتبقى في دائرة المعجزة ،وفي توسيعها لتشمل كلّ الكون ،حتّى أنَّ البعض يرى أنَّ اللّه فوّض للأنبياء وللأئمة ( ع ) أمر التصرّف في الكون في حركته الخفية والظاهرة ،بحيث إنَّهم يملكون القدرة على تغيير ما يريدونه في الكون وفي الإنسان ،من دون أيّة قدرة ذاتية مستقلة ،بل من خلال القدرة التي مكّنهم اللّه منها وأعطاهم إياها ؛فهم القادرون بقدرة اللّه ،الأولياء على الكون بولايته ،وهذا ما يبعد المسألة عن الشرك والغلوّ والانحراف عن خطِّ العقيدة المستقيم .
إمكان الولاية التكوينية وضرورتها:
ونحن نريد أن نناقش المسألة من ناحيتين: الناحية الأولى ،وتنقسم إلى نقطتين:
النقطة الأولى: جانب الإمكان ،ولا إشكال في إمكان هذا الجعل من ناحية المبدأ ،لأنَّ اللّه القادر على الوجود كلّه والكون كلّه ،يملكفي مضمون ألوهيته المطلقةأن يمكّن بعض خلقه من بعض مواقع القدرة ووسائلها ،فهو الذي جعل لهم القدرة في دائرة إنسانيتهم في أوضاعهم الخاصّة والعامّة ،من خلال ما أوكل اللّه إليهم من مهمّات تتصل بالمسؤوليات الملقاة على عواتقهم ،والحوافز المرتبطة بتطلّعاتهم وحاجاتهم ،ولا بُدَّ من أن يكون له القدرة على توسيع هذه الإمكانات لأكثر من مهمة جديدة في الكون .ويبقى اللّه مسيطراً ومهيمناً على الأمر كلّه ،فله أن يبقيها لهم في مدى حكمته ،وله أن يسلبها عنهم في مدى قدرته ،وليس في ذلك آيّة منافاة أو انحراف عن العقيدة التوحيدية التي ترتكز على أنَّ الخلق والأمر له في كلِّ شيء ،فلا يملك أحد من أيّ شيء إلاَّ ما ملّكه اللّه ،لأنَّ القضية قضية عطاء إلهي يتحرّك في الدائرة الخاصة التي يحدّدها اللّه لعباده من خلال إرادته المطلقة التي لا يعجزها شيء .
النقطة الثانية: جانب الحاجة أو الضرورة لذلك ،والسؤال: لماذا يجعل اللّه لهم هذه الولاية التكوينية ؟هل هناك مهمة تتوقف على ذلك ،بحيث تكون المسألة هي أن يملكوا القدرة الفعلية الشخصية بحيث يصدر الفعل منهم فلا يتحقّق الهدف إلاَّ من خلال ذلك ،أم هي قضية تشريف إلهي لهم حيث يمنحهم هذا الموقع الكبير الذي لا يملكه أحد في الوجود غيرهم ؟
هذه علامات استفهام تطوف في الذهن ،فلا نجد لها جواباً إيجابياً يؤكّد النظرية ،فنحن نعلم أنَّ دور الأنبياء هو دور تبشير وإنذار وتبليغ ،وإذا كان لهم دور تنفيذي فإنَّهم يتحرّكون فيه من خلال الوسائل العادية المطروحة بين أيديهم في الحالات العادية .فإذا جاء التحدّي الكبير الذي يحوّل الموقف إلى خطر كبير على الرسالة والرسول ،بحيث كانت الوسائل العادية ذات مردودٍ سلبيٍّ على الموقف والموقع ،لأنَّها تجعل القضية في حالة الضعف الشديد ،فإنَّ المعجزة عندئذٍ تتحرّك لتحفظ توازن الرسالة في موقع الرسول ،وتصدم واقع الكافرين بالصدمة القوية القاهرة التي تردّ كيدهم وتهدم كيانهم وتؤدي بهم إلى الضعف والهزيمة ،كما في طوفان نوح ( ع ) ،ونار إبراهيم ( ع ) وعصا موسى ( ع ) ،أو يده البيضاء وفلق البحر له ،وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لدى عيسى ( ع ) ،وقرآن محمَّد ( ص ) ،وتنتهي المسألة عند هذا الحدّ ،فتكون بمثابة قضية في واقعة ،وتعود الرسالة إلى مجراها الطبيعي ،ويعود الرسول إلى الوسائل العادية ،ويتحرّك الصراع من جديد ليعيش النبيّ هنا وهناك أكثر من مشكلة وهمّ وبلاء ؛فيتحمّل الألم القاسي ،ويواجه التحدّيات الصعبة كأيّ إنسانٍ آخر من دون أن يُبادر إلى أيّة وسيلةٍ غير عادية للتخلّص من ذلك كلّه .
أمّا التشريف ،فإنَّه لا يتمثَّل في إعطاء القدرة من دون قضية ،أو توسيع السلطة من دون مسؤولية ،واللّه يشرّف أنبياءه من خلال رفع درجتهم عنده ،بتقريبهم إليه ومحبته لهم وعلوّ مقامهم في الآخرة ،أمّا الدُّنيا فلا قيمة لها عنده ،ولذلك لم يجعلها أجراً لأوليائه ،بل أتاح الفرصة الكبرى فيها لأعدائه .
إنَّنا لا نجد أيّة ضرورة أو حاجةٍ تفرض إعطاء الولاية التكوينية المطلقة لهم إلاَّ بالمقدار الذي تحتاجه الرسالة في أصعب أوقات التحدّي ،مع احتمال أنَّها ليست من قدرتهم ،ولكنَّها قدرة اللّه بصورة مباشرة .ثُمَّ ما معنى هذه الولاية التي لا أثر لها في حياتهم من قريب أو من بعيد ،ولا دخل لها في حماية رسالتهم ،فلم يستعملوها في إذهاب الخطر عنهم ،ولم يتحرّكوا بها في الانتصار لرسالاتهم ،وذلك من خلال قراءة تاريخهم الصحيح كلّه ؟
أدلّة الولاية التكوينية:
الناحية الثانية: ناحية الدليل على ثبوتها من خلال النص القرآني في نطاق المعاجز الخارقة في حياة الأنبياء ،فنلتقي في البداية بالنبيّ نوح في قوله تعالى: [ كذَّبت قبلهم قومُ نوحٍ فكذَّبوا عبدنا وقالوا مجنونٌ وازدُجِرَ* فدعا ربَّه أنّي مغلوبٌ فانتصر* ففتحنا أبواب السَّماء بماء منهمرٍ* وفجَّرنا الأرض عيوناً فالتقى الماءً على أمرٍ قد قُدِرَ] ( القمر:912 ) وهي واضحة الدلالة على أنَّ المسألة كانت دعاء نوح واستجابة ربِّه له بإغراق الكافرين بالطوفان ،من دون أن يكون لنوح أيّ دورٍ عملي فيه .
فإذا انتقلنا إلى إبراهيم( ع ) ،فنجد قوله تعالى: [ قالوا حرِّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نارُ كوني برداً وسلاماً على إبراهيم * وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين] ( الأنبياء:6870 ) إنَّه اللطف الإلهي بنبيّه إذا أرادوا إحراقه ،فأنجاه اللّه من النّار فحوّلها إلى عنصرٍ بارد .فإذا انتقلنا إلى الطلب الذي قدّمه النبيّ إبراهيم ( ع ) إلى ربِّه أن يريه كيف يحيي الموتى وذلك قوله تعالى: [ وإذ قال إبراهيم ربِّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنَّ قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهُنَّ إليك ثُمَّ اجعل على كلِّ جبلٍ منهنَّ جُزءاً ثُمَّ ادعُهُنَّ يأتينك سعياً واعلم أنَّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ] ( البقرة:260 ) ،فإنَّنا نرى أنَّ دور إبراهيم في المسألة هو أن يأتي بالطيور ويذبحها ويقسّمها إلى أجزاء ثُمَّ يدعوهنّ لتأتينه سعياً ،لنشاهد الصورة الواضحة في كيفية إحياء اللّه للموتى ،فإنَّ اللّه هو الذي أحياها بطريقة مباشرة ولم يكن لإبراهيم دورٌ في ذلك .
ونصل إلى موسى ( ع ) الذي تمثَّلت المعجزة لديه أولاً في مجلس فرعون الذي قال كما جاء به قوله تعالى: [ قال إن كنت جئت بآية فأتِ بها إن كنت من الصَّادقين* فألقى عصاه فإذا هي ثُعبانٌ مبينٌ* ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين] ( الأعراف:106108 ) ثُمَّ في ذروة التحدّي الذي واجهه في صراعه مع السحرة ،وذلك قوله تعالى: [ وأوحينا إلى موسى أن ألقِ عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون] ( الأعراف:117 ) .ونحن لا نرى أيّ جهدٍ لموسى في الموضوع ،فإنَّه كان يعيش دور المنفعل الذي يحوّل اللّه يده السمراء إلى بيضاء ،ويحوّل العصا التي يمسكها إلى ثعبان ،وكان خاضعاً للخوف من تجربة السحرة وللحَيْرة في ما يُمكن أن يقوموا به ردّاً للتحدّي ،لأنَّه كان ينتظر تدخل اللّه غير العادي في المسألة ،وذلك هو قوله تعالى: [ فأوجس في نفسه خيفةً موسى* قلنا لا تخف إنَّك أنت الأعلى* وألقِ ما في يمينك تلقف ما صنعوا كيدُ ساحرٍ ولا يُفلح السَّاحر حيثُ أتى] ( طه:6769 ) .
ثُمَّ نلتقي بالنبيّ سليمان ( ع ) الذي قال: [ ربِّ اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنَّك أنت الوهابُ] ( ص:35 ) واستجاب اللّه دعاءه: [ فسخَّرنا له الريح تجري بأمره رُخاءً حيثُ أصاب * والشَّياطين كلَّ بنَّاءٍ وغوَّاصٍ * وآخرين مُقرنين في الأصفاد * هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حسابٍ] ( ص:3639 ) .فليس في القصة إلاَّ دعاء واستجابة ربانية أعطته ما يريد من دون أن يكون له أيّ دورٍ عملي أو قدرة واقعية في تحقيق ذلك .
ونصلبعد هذه الجولة الطويلةإلى عيسى( ع ) ،الذي قد يُدّعى ظهور الآية في صدور المعجزة عنه من خلال جهده الذاتي الذي اكتسبه بإذن اللّه ،وهذا هو ما جاء في الآية الكريمة: [ أنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللّه وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن اللّه وأنبئكم بما تأكلون وما تدَّخرون في بيوتكم] فنلاحظ أنَّه ينسب الخلق إلى نفسه ،كما ينسب عملية إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى والإخبار بالغيب في أوضاع النّاس الخاصة إلى جهده وفعله الشخصيّ ،ولكن بإذن اللّه .
وربَّما يجد القائلون بالولاية التكوينية الحجّة الدامغة في هذه الآية الكريمة ،ولكنَّنا نستوحي من كلمة: [ بإذن اللّه] في هذه الآية ،أو كلمة [ بإذني] ( المائدة:110 ) أنَّ دور عيسى كان دور الآلة التي تتحرّك لتصنع شيئاً كهيئة الطير وتنفخ فيه ،فيبعث اللّه في الحياة .وهكذا يضع يده على الأكمه والأبرص وعلى الميت ،فتحدث العافية في الأولَيْن ،وتنطلق الحياة في الثالث من خلال إرادة اللّه .
من هنا ،فإنَّ كلمة [ بإذن اللّه] لا تعني معناها الحرفي اللغوي ،بل تعني معنى القوّة التي تنطلق لتحقّق النتائج الحاسمة التي لا يملك عيسى ( ع ) أيّة طاقة خاصة به فيها .
وهكذا نرى أنَّه لا دليل في كلِّ هذه المواقع على الولاية التكوينية في النص القرآني ،بل ربَّما نجد الدليل على خلافها من خلال الآيات التي تدل على أنَّ النبيّ لا يملك شيئاً من ذلك كلّه ،وأنَّ مهمته الأولى والأخيرة هي الرسالة في حركتها في الإبلاغ والتبشير والإنذار وهداية النّاس إلى سُبُل السَّلام في الطريق إلى اللّه ،بل إنَّ القرآن يؤكّد وجود عناصر الضعف البشري في ذات الرسول ،ولكن في المستوى الذي لا يُنافي العصمة ،فنقرأ في سورة الإسراء قوله تعالى: [ وقالوا لن نؤمن لك حتّى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً * أو تكون لك جنَّةٌ من نخيل وعنب فتفجِّر الأنهار خلالها تفجيراً * أو تُسقط السَّماء كما زعمت علينا كِسفاً أو تأتي باللّه والملائكة قبيلاً * أو يكون لك بيتٌ من زخرف أو ترقى في السَّماء ولن نؤمن لرقيك حتّى تُنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربّي هل كنت إلاَّ بشراً رسولاً] ( الإسراء:9093 ) . فنحن نلاحظ أنَّ النبيّ ( ص ) لم يتحدّث عن رفضه للمعجزات الاقتراحية التي يوجهها النّاس الكافرون للأنبياء كوسيلة للتحدّي والتعجيز مما يرفضه الأنبياء ،لأنَّ مهمة النبيّ ليست هي إشغال نفسه بتنفيذ هذه الطلبات التي لا معنى لها بعد إقامة الحجّة عليهم من قِبَله ،بل تحدّث عن أنَّ ذلك لا يدخل في مهمته الرسالية ،كما أنَّه لا يملك هذه القدرة باعتبار بشريته التي تختزن في داخلها الضعف البشري .
وإذا كان بعض النّاس يتحدّثون عن أنَّ القائلين بالولاية التكوينية يؤكدون أنَّ النبيّ لا يختزن في مضمون بشريته أيّة قدرة ذاتية ،بل إنَّ اللّه هو الذي يمنحه ذلك ،فإنَّنا نجيب بأنَّ النبيّ ( ص ) إنَّما كان يتحدّث عن الواقع الفعلي الذي تمثّله طاقته في دوره ،فإنَّ اللّه أعطاه الطاقة المرتبطة بحركية الرسالة في النّاس ،ولم يُعطِهِ الطاقةحتّى بإذنهلمثل هذه الطلبات الصعبة .
وقد نستوحي من هذه الآيات ومن غيرها أنَّ المعجزة الوحيدة للنبيّ هي القرآن الكريم ،فلم يقم النبيّ بمعجزة أخرى كانشقاق القمر ،بحيث لو كانت منه لكانت أكثر استجابةً للتحدّي الذي واجهه النبيّ ( ص ) من قِبل المشركين ،كما أنَّها أكثر صعوبة من هذه الاقتراحات .وقد تحدّث المشركون عن هذه المسألةوهي عدم قيام النبيّ محمَّد( ص ) بالمعجزة المماثلة لما قام به الأنبياء السابقونوذلك في قوله تعالى: [ وقالوا لولا نُزل عليه آيةٌ من ربِّه قل إنَّ اللّه قادرٌ على أن يُنزِّل آيةً ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون] ( الأنعام:37 ) وقوله تعالى: [ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آيةٌ من ربِّه إنَّما أنت منذرٌ ولكلِّ قومٍ هادٍ] ( الرعد:7 ) فقد يظهر من هذه الآية ،أنَّ إنزال الآيات ليس أمراً ضرورياً للنّبوّة إلاَّ في حالات التحدّي الكبير الذي يهدّد حركتها في ساحة الصراع والمواجهة ،ولذلك لم ينزل اللّه على النبيّ آيةً ،لأنَّ التحدّي لم يصل إلى هذه المرتبة الحاسمة .وقوله تعالى: [ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلاَّ أن كذَّب بها الأولون وآتينا ثمود النَّاقة مبصرةً فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلاَّ تخويفاً] ( الإسراء:59 ) .وظاهرها نفي الإرسال بالآيات بالرغم من أنَّها كانت مطلباً ملحّاً للمشركين ،كما جاء في آية أخرى في قوله تعالى:
[ وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمنُنَّ بها قل إنَّما الآيات عند اللّه وما يشعركم أنَّها إذا جاءت لا يؤمنون] ( الأنعام:109 ) .فإنَّ المسألة لم تكن في مستوى الضرورة ،ولم تكن في واقع الحاجة للمهمة الرسالية .
ونلتقي في آيات أخرى ببعض مظاهر الضعف البشري الفعلي للأنبياء ،وذلك كما في قصة موسى الذي خرج من المدينة خائفاً يترقب ،وكان يعيش الخوف من قتل فرعون وقومه له: [ ولهم على ذنبٌ فأخاف أن يقتلونِ] ( الشعراء:14 ) والخوف في ساحة التحدّي مع السحرة: [ فأوجس في نفسه خيفةً موسى * قلنا لا تخف إنَّك أنت الأعلى] ( طه:68 ) ونجد ذلك في قصة إبراهيم عندما دخل عليه الملائكة: [ فأوجس منهم خيفةً قالوا لا تخف] ( الذاريات:28 ) .ونلاحظ ذلك في خطاب اللّه للنبيّ محمَّد ( ص ) كيف يقدّم نفسه للنّاس: [ قل لا أقول لكم عندي خزائن اللّه ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنّي ملكٌ إن أتَّبع إلاَّ ما يوحى إليَّ] ( الأنعام:50 ) ،وقد ورد هذا المضمون في سورة هود في آية: [ ولا أقول لكم عندي خزائن اللّه ولا أعلم الغيب ولا أقول إنّي ملكٌ ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهُمُ اللّه خيراً] ( هود:31 ) ،فإنَّ هذه الآية ظاهرة في تأكيد بشرية الرسول ( ص ) وبأنَّ كلّ ما لديه إنَّما هو من اللّه سبحانه وتعالى ،يمنحه إياه بقدر حاجة الرسالة إليه في حركتها في الحياة .وثمة إشارة في الآية إلى أنَّ الغيب الذي قد يعلّمه اللّه للنبيّ إنَّما ينزل عليه بطريق الوحي ،كما جاء التصريح به في آية أخرى: [ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليكم] ( آل عمران:34 ) ،وقد جاء في قوله تعالى: [ قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضرّاً إلاَّ ما شاء اللّه ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير وما مسَّني السُّوء إن أنا إلاَّ نذيرٌ وبشيرٌ لقوم يؤمنون] ( الأعراف:188 ) ،وهذه الآية تدل على نفي الفعلية في وجود الطاقة التي تدفع عن الإنسان الشرّ وتجلب له الخير ،بحيث إنَّها تأتي تدريجاً بمشيئة اللّه لا بنحو خلق الطاقة في الكيان النبوي ليتحرّك من خلالها إرادياً ،ويؤكّد ذلك أنَّه يتحدّث عن الواقع الذي كان يصيبه بالسوء بمختلف ألوانه ،أو يمنع منه الكثير من الخير .فكأنَّه يريد الإيحاء بأنَّ ذلك لا يتصل بدوره لأنَّ دوره البشارة والإنذار لقوم يؤمنون مما لا يحتاج فيه إلى علم الغيب إلاَّ بما يرتبط بحركة الرسالة في تاريخ الرسالات في الأمم السابقة .وهذا ما يوحيه اللّه إليه في القرآن الكريم من أنباء الغيب ،في التاريخ الذي لا يعلمه هو ولا قومه .
وقد ورد في بعض الآيات الحديث عن أنَّ اللّه يظهر رسله على الغيب ،وذلك هو قوله تعالى: [ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلاَّ من ارتضى من رسولٍ فإنَّه يسلُكُ من بين يديه ومن خلفه رصداً * ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربِّهم وأحاط بما لديهم وأحصى كلَّ شيءٍ عدداً]
( الجن:2628 ) ،فقد استند إليها القائلون بأنَّ اللّه قد أعطى رسوله وأولياءه العلم بالغيب ،إمّا بطريق الفعلية الاستحضارية ،وإمّا بطريق القوّة ،بمعنى أنَّه لو شاء أن يعلم لعلم .وذكروا أنَّ ظاهر الاستثناء في قوله تعالى: [ إلاَّ من ارتضى من رسولٍ] هو الإطلاق الذي لم يتقيد بشيء ،ما يوحي بأنَّ المسألة تشمل كلّ شيء يريد الرسول أن يعلمه من الغيب ،ويفسِّرون ما حكي من كلامه تعالى من أنَّ إنكارهم العلم بالغيب أريد به نفي الأصالة والاستقلال دون ما كان يوحى .ولكنَّنا نحتمل أن يكون قوله تعالى: [ فإنَّه يسلُكُ من بين يديه ومن خلفه رصداً] إشارة إلى الغيب الذي يظهر عليه من ارتضى من رسله ،وهو الجوّ الملائكي الذي يحميه من الشَّياطين ،فيطردهم عنه ويعصمه من وساوسهم وتخاليطهم ،حتّى يبلغ ما أوحي به إليه ؛فليست الآية في مقام الحديث عن علم الرسول للغيب بل عن حمايته بطريق الغيب ،فكأنَّه بداية كلام جديد في الحديث عن مهمة الرسل في إبلاغهم رسالات ربِّهم واطلاعه عليهم وحمايته لهم ،وذلك على أسلوب الاستثناء المنقطع ،لأنَّ مثل هذا الاستثناءعلى حسب ما يرى هؤلاءيتنافى مع الأسلوب القرآني الذي يؤكّد نفي علم الأنبياء بالغيب ،الذي لم يكن وارداً على سبيل نفي الاستقلالكما ذكربل على نفي الفعلية بحسب الواقع الفعلي الذي يعيشه في حياته وفي مهمته الرسالية .
وخلاصة الفكرة أنَّ هناك فرقاً بين علم الغيب كمَلَكة تدخل في نطاق التكوين الذاتي للنبيّفي خصوصية نبوّتهوهذا ما ينفيه الظاهر القرآني ،سواء ذاك المتصل بأخبار الماضين ،والذي يمكن إدراجه تحت عنوان علم الغيب ،حيث ثمة إشارة واضحة في القرآن الكريم أنَّ أنباءه هي من وحي اللّه تعالى ،أو ذاك المتصل ببعض موارد الحاجة إليه في موارد معينة ،فيلهمه اللّه تعالى إياه إلهاماً ،فهذا ما لا ينفيه النص القرآني ،بل قد تؤكّده بعض الآيات .وقد وردت أحاديث متنوّعة في علم الأنبياء والأئمة بالغيب ،وهي موضع جدل علميّ ،وربَّما نتعرّض لها في ما يأتي في حديث الغيب في آيات القرآن .
ومن خلال هذا الحديث الطويل ،نستطيع أن نخرج بالفكرة التي تنفي الولاية التكوينية بمعناها التكويني الذي منحه اللّه للأنبياء وللأئمة ،لأنَّ الدليل لم يدل عليهحسب فهمنا القاصرولكن يبقىفي المسألةأنَّ اللّه يمنح الأنبياء الفرصة التي يواجهون فيها تحدّيات الكفر بالمعجزات عند الحاجة إليها ؛واللّه العالم .