...ويُتابع عيسى حديثه في التدليل على طبيعة مهمته ورسالته ،فيعتبرهاكما هي عند اللّهحَلَقة في السلسلة المباركة النبوية .
[ ومصدِّقاً لما بين يديَّ من التوراة] فإنَّ النبوّة الجديدة لا تلغي النبوّة القديمة ،لأنَّ النبوات ليست منطلقة من شخص النبيّ في ذاتياته الفكرية ،بل من وحي اللّه الذي يشرّع للحياة كلّها وللإنسان كلّه ،في الخطّ العام الذي تتكامل فيه الرسالات وتتوزع فيه الأدوار ،إلاَّ ما يختص بمرحلة النبيّ في الزمن الذي يعيش فيه النّاس الذين أرسل إليهم والأوضاع التي قد يعرض عليها التغيير ؛وهكذا كان كلّ نبيّ مصدّقاً لمن قبله في رسالته وفي الكتاب الذي أنزل عليه ،ومنهم النبيّ عيسى ( ع ) .
...فهو أحد الأنبياء الذين اختصهم اللّه برسالاته ،فقد جاء بعد موسى ( ع ) وأقرّ الكتاب الذي أنزل عليه من التوراة وصدّق به ،لأنَّ أحكامه لم تنسخفي الأغلبولأنَّ مفاهيمه لم يتجاوزها الزمن فلا تحتاج إلى تجديد ...وفي ضوء ذلك ،فإنَّ موقفه الرسالي لا يمثِّل تحدّياً للمفاهيم والأحكام التي يؤمن بها هؤلاء الذين بُعث إليهم من بني إسرائيل ،لأنَّه تركها على حالها ،ما عدا بعض الأحكام التي حُرّمت عليهم كنتيجةٍ لتمرّدهم ،فأراد اللّه أن يؤدبهم بالتشريع الصعب الذي يثقل عليهم مسؤولياتهم ،حتّى إذا انطلق الزمن في مدارٍ جديدٍ ،رفع اللّه عنهم ذلك كلّه ببركة هذا الرسول الجديد الذي جاء رحمة لهم وبركة عليهم: [ ولأحلَّ لكم بعض الذي حُرِّم عليكم وجئتكم بآية من ربِّكم] .
وهكذا كانت الرسالات السَّماوية تدفع الإنسان إلى السير مع خطّ الرسالة في ما أوحاه اللّه لرسوله من كتاب ،وإلى السير مع الرسول في ما يلهمه اللّه من شؤون الحركة الإسلامية في قضايا النّاس اليومية في ما يأمرهم الرسول به أو ينهاهم عنه ،مما يحدث لهم في كلِّ أمورهم ...
ويتصاعد الأسلوب ليضع قضية الإيمان باللّه وعبادته في نطاقها الطبيعي ،فهي ليست مجرّد فكرة طارئة ،تأخذ جانباً من جوانب الفكر كأيّة فكرة أخرى ،بل هي خطّ للحياة يفرض نفسه على الفكر والممارسة والشعور .
[ فاتَّقوا اللّه وأطيعونِ] وهكذا دعاهم إلى تقوى اللّه في الوقوف عند حدوده من خلال ما أوجبه وما حرّمه عليهم ،وإلى طاعته في ما يُريد أن ينظّم لهم من حياتهم في مسارها الجديد الذي يخلق لنا أوضاعاً جديدة في حركة الإيمان نحو أهدافه الكبيرة في الحياة .فإنَّ التَّقوى والطاعة للّه مظهر الاعتراف بالربوبية الشاملة في تأكيدها المضموني الإيحائي على العبودية الخالصة في خضوع الإنسان لربِّه ،وهما الخطّان اللذان يتحرّك فيهما المبدأ العام في امتداده الحركي ،كما تنطلق فيهما المفردات التفصيلية التي ترتبط بالعقيدة كلّها في مضمونها العملي .