وقوله تعالى:{ ومصدقا لما بين يدي من التوراة}حال من الفعل المحذوف الذي دل عليه العطف ، أي أني جئتكم بآية من ربكم أني اخلق ،وجئتكم مصدقا لما بين يدي ؛يقال الأمر بين يديه أي أنه حاضر ثابت موجود ،وعيسى جاءت رسالته متممة لرسالة موسى ناسخة لبعض ما جاء فيها ، كالشأن في كل نبي بالنسبة لمن سبقه .ولقد بين عيسى عليه السلام لهم انه جاء بالرفق والسماحة ؛
ولذا احل الله لهم على يديه بعض ما حرم عليهم بظلمهم وقسوتهم وجفوتهم{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم . . .160}[ النساء]ولقد قال تعالى:{ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما او الحوا يا او ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وغنا لصادقون146}[ الأنعام] .ذلك لنهم قست قلوبهم وغلظت أكبادهم ، واستناموا إلى الراحة واسترخت أجسامهم ،فابتلاهم الله بهذا التحريم لينشطوا ويعملوا ، ويكونوا قوة عاملة ،ولا يكونوا أجساما مسترخية ؛فلما جاء عيسى عليه السلام ،وقد نزل بهم من البلاء ما نزل ،احل الله لهم على لسانه ما كان قد حرم .وقوله تعالى:{ وجئتكم بآية من ربكم}ذكرت الآية ، لأن جزءا من الرسالة العيسوية إثبات خلق الأشياء بالإرادة المختارة ، ومعجزته كلها تتجه نحو هذا الاتجاه ،فهي في ذاتها جزء من دعوته ؛لإثبات قدرة الله تعالى وإرادة في الخلق والإبداع .
وبعد ان أشار سبحانه إلى ما تضمنته الرسالة العيسوية ،ذكر دعوة عيسى لقومه بهذه الرسالة ،فقال سبحانه حاكيا قول عيسى لهم:
{ فاتقوا الله وأطيعون}كانت دعوة عيسى تتجه إلى هذين المرين:تقوى الله تعالى ،وان يطيعوه بان يتبعوه في منهاجه الذي رسمه لهم ووجههم إليه تبليغا لرسالة ربه .أما تقوى الله تعالى فكان لا بد ان تكون لباب الدعوة العيسوية ؛لأن اليهود كانوا قد اعرضوا عن الله تعالى إعراضا تاما ،حتى لقد كان فريق منهم ،وهم الصدوقون لا يؤمنون باليوم الآخر ،وحتى لقد حسب أكثرهم ان العقاب الذي هدد الله به هو العقاب الدنيوي ،لا العقاب الأخروي ؛ومن اجل ذلك سرى في قلوبهم حب الدنيا والحرص عليها شديدا أيا كانت حياتهم فيها ؛ولذا قال تعالى عنهم:{ ولتجدنهم احرص الناس على حياة . . .96}[ البقرة] .
وأما الطاعة لعيسى عليه السلام ف[ ان يتخذوا منه قدوة حسنة في زهادته وروحانيته وسماحته ، ليخففوا من غلظتهم وقسوتهم .واليهود إلى الآن في أشد الحاجة إلى مثل هذه الدعوة ، وهي التقوى والعفة والسماحة ،ولكنهم أجابوا في الماضي داعي الحق بمحاولة قتله ،وكذلك يفعلون الآن ،فهم يحاولون قتل من حموهم وآووهم .