ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر قدرته فقال:وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ.
والمراد بالإراءة هنا:التعريف والعلم الذي يقوم مقام الرؤية بالبصر، كما في قولهم:
سأريك يا فلان ما أصنع بك. أى:سأعلمك بذلك.
والفاء في قوله:فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ لترتيب المعرفة على الإراءة، والمراد بسيماهم:
علاماتهم. يقال:سوم فلان فرسه تسويما، إذا جعل له علامة يتميز بها.
وكررت اللام في قوله:فَلَعَرَفْتَهُمْ للتأكيد.
ولحن القول:أسلوب من أساليبه المائلة عن الطريق المعروفة، كأن يقول للقائل قولا يترك فيه التصريح إلى التعريض والإبهام، يقال:لحنت لفلان ألحن لحنا، إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره.
قال الجمل:واللحن يقال على معنيين، أحدهما:الكناية بالكلام حتى لا يفهمه غير مخاطبك- ومنه قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم لبعض أصحابه في غزوة الأحزاب:«وإن وجدتموهم- أى:بنى قريظة- على الغدر فالحنوا لي لحنا أعرفه» .
والثاني:صرف الكلام من الإعراب إلى الخطأ- أى:من النطق السليم إلى النطق الخطأ-.
ويقال من الأول:لحنت- بفتح الحاء- ألحن فأنا لاحن، ويقال من الثاني:لحن- بكسر الحاء إذا لم ينطق نطقا سليما- فهو لحن.
والمعنى:ولو نشاء إعلامك وتعريفك- أيها الرسول الكريم- بهؤلاء المنافقين وبذواتهم وأشخاصهم لفعلنا، لأن قدرتنا لا يعجزها شيء فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ أى:بعلاماتهم الخاصة بهم، والتي يتميزون بها عن غيرهم.
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ- أيضا- فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أى:ولتعرفنهم بسبب أقوالهم المائلة عنالأساليب المعروفة في الكلام، حيث يتخاطبون فيما بينهم بمخاطبات لا يقصدون ظاهرها، وإنما يقصدون أشياء أخرى فيها الإساءة إليك وإلى أتباعك.
قال الإمام ابن كثير:قوله- تعالى-:وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ يقول- تعالى-:ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم، فعرفتهم عيانا، ولكن لم يفعل- سبحانه- ذلك في جميع المنافقين، سترا منه على خلقه.
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أى:فيما يبدون من كلامهم الدال على مقاصدهم. كما قال عثمان- رضى الله عنه-:ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. وفي الحديث:«ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها» .
وعن أبى مسعود عقبة بن عمرو قال:خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:«إن منكم منافقين، فمن سميت فليقم. ثم قال:قم يا فلان، قم يا فلان- حتى سمى ستة وثلاثين رجلا- ثم قال:إن فيكم- أو منكم- فاتقوا الله» .
وقوله- سبحانه-:وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ ببان لعلمه الشامل- سبحانه- وتهديد لمن يجترح السيئات، أى:والله- تعالى- يعلم أعمالكم علما تاما كاملا، وسيجازيكم عليها بما تستحقون من ثواب أو عقاب.