ثم بين القرآن بعد ذلك أن رجلين مؤمنين منهم قد استنكرا إحجام قومهما عن الجهاد، وحرضاهم على طاعة نبيهم فقال:قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
والمراد بالرجلين:يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، وكانا من الاثنى عشر نقيبا.
وقد وصف الله- تعالى- هذين الرجلين بوصفين.
أولهما:قوله:مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أى:من الذين يخافون الله وحده ويتقونه ولا يخافون سواه وفي وصفهم بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لا يخافونه- تعالى- بل يخافون العدو.
وقيل المعنى:من الذين يخافون الأعداء ويقدرون قوتهم إلا أن الله- تعالى- ربط على قلبيهما بطاعته. فجعلهما يقولان ما قالا:
الوصف الثاني:فهو قوله:أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا فهذه الجملة صفة ثانية للرجلين. أى:قال رجلان موصوفان بأنهما من الذين يخافون الله- تعالى- ولا يخافون سواه، وبأنهما من الذين أنعم الله عليهما بالإيمان والتثبيت والثقة بوعده، والطاعة لأمره قالا لقومهما. ادخلوا عليهم الباب.
هذا، وقد ذكر صاحب الكشاف وغيره وجها ثالثا فقال:ويجوز أن تكون الواو في قوله:
يَخافُونَ- لبنى إسرائيل. والراجع إلى الموصول محذوف. والتقدير:قال رجلان من الذين يخاف بنو إسرائيل منهم، - وهم الجبارون- وهما رجلان منهم «أنعم الله عليهما» بالإيمان فآمنا، قالا لهم:إن العمالقة أجسام لا قلوب فيها فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم،يشجعانهم على قتالهم. وقراءة من قرأ:يَخافُونَ- يضم الياء- شاهدة له. وكذلك. أنعم الله عليهما».
والذي نراه أن الرأى الأول أرجح وهو أن الرجلين من بنى إسرائيل، وأن قوله- تعالى- مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا صفتان للرجلين وأن مفعول يخافون محذوف للعلم به وهو الله- تعالى- أى:يخافون الله ويخشونه لأن هذا هو الظاهر من معنى الآية، وهو الذي صدر به المفسرون تفسيرهم للآية، ولأنه لم يرد نص يعتمد عليه في أن أحد الجبارين قد آمن وحرض بنى إسرائيل على قتال قومه، بينما وردت الآثار في بيان اسمى الرجلين وأنهما كانا من الاثنى عشر نقيبا- كما سبق أن ذكرنا- وقوله- تعالى- ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ تشجيع من الرجلين لقومهما ليزيلا عنهم الخوف من قتال الجبارين.
أى:قال الرجلان اللذان يخافان الله لقومهما:ادخلوا على أعدائكم باب مدينتهم وفاجئوهم بسيوفكم، وباغتوهم بقتالكم إياهم، فإذا فعلتم ذلك أحرزتم النصر عليهم، وأدركتم الفوز، فإنه «ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا» .
قال صاحب الكشاف:فان قلت:من أين علما أنهم غالبون؟ قلت:من جهة إخبار موسى بذلك. ومن جهة قوله- تعالى- كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. وقيل:من جهة غلبة الظن وما تبينا من عادة الله في نصرة رسله، وما عهدا من صنع الله لموسى في قهر أعدائه، وما عرفا من حال الجبابرة» .
وقوله- تعالى:وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ دعوة من الرجلين المؤمنين لقومها، بأن يكلوا أمورهم إلى خالقهم بعد مباشرة الأسباب، وأن يعقدوا عزمهم على دخول الباب على أعدائهم، إن كانوا مؤمنين حقا، فإن النصر يحتاج إلى تأييد من الله- تعالى- لعباده، وإلى توكل عليه وحده، وإلى عزيمة صادقة، ومباشرة للأسباب التي توصل إليه.