هذا وبعد أن انتهت السورة الكريمة من الحديث عما جرى لبعض الأنبياء مع أقوامهم، ومن بين سنن الله في خلقه، وبعد أن حذرت وأنذرت، اتجهت بالخطاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتطلعه على النتيجة الأخيرة لابتلاء تلك القرى، وما تكشف عنه من حقائق تتعلق بطبيعة الكفر وطبيعة الإيمان فقالت:تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها.
أى:تلك القرى التي طال الأمد على تاريخها، وجهل قومك أيها الرسول الكريم أحوالها.
وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم شعيب، نقص عليكم ما فيه العظات والعبر من أخبارها.
ليكون ذلك تسلية لك وتثبيتا لفؤادك، وتأييدا لصدقك في دعوتك.
قال الزمخشري:قوله- تعالى-:تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها كقوله:هذا بَعْلِي شَيْخاً في أنه مبتدأ وخبر وحال. ويجوز أن يكون القرى صفة لتلك ونقص خبرا، وأن يكون الْقُرى نَقُصُّ خبرا بعد خبر. فإن قلت:ما معنى تِلْكَ الْقُرى؟ حتى يكون كلاما مفيدا. قلت:هو مفيد ولكن بشرط التقييد بالحال كما يفيد بشرط التقييد بالصفة في قولك:
هو الرجل الكريم. فإن قلت:ما معنى الإخبار عن القرى بنقص عليك من أنبائها؟ قلت:
معناه أن تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أخبارها ولها أنباء أخرى لم نقصها عليك» .
وإنما قص الله- تعالى- على رسوله صلّى الله عليه وسلّم أنباء أهل هذه القرى، لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم، فتوهموا أنهم على الحق، فذكرها الله لمن أرسل إليهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليحترسوا عن مثل تلك الأعمال، وليعتبروا بما أصاب الغافلين الطاغين من قبلهم.
ثم بين- سبحانه- أنه قد أعذر إليهم بأن وضح لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل فقال:وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ أى:ولقد جاء إلى أهل تلك القرى رسلهم بالدلائل الدالة على صدقهم، فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات من رسلهم بما كانوا قد كذبوا به قبل رؤيتها منهم، لأنهم لجحودهم وعنادهم تحجرت قلوبهم، واستوت عندهم الحالتان:حالة مجيء الرسل بالمعجزات وحالة عدم مجيئهم بها.
وقيل إن المعنى:ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم إلى دار التكليف ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل إهلاكهم، ونظيره قوله- تعالى- وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ.
وقوله:كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ أى:«مثل ذلك الطبع الشديد المحكم الذي طبع الله به على قلوب أهل تلك القرى المهلكة، يطبع الله على قلوب أولئك الكافرين الذين جاءوا من بعدهم بسبب إيثارهم الضلالة على الهداية.