ولذا مدح- سبحانه- أصحاب هذه الصفات، وبين ما أعده لهم من ثواب جزيل فقال:أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.
أى:أولئك المتصفون بتلك الصفات الكريمة هم المؤمنون إيمانا حقا لَهُمْ دَرَجاتٌ عالية، ومكانة سامية عِنْدَ رَبِّهِمْ ولهم مَغْفِرَةٌ شاملة لما فرط منهم من ذنوب، ولهم رِزْقٌ كَرِيمٌ في الجنة، يجعلهم يحيون فيها حياة طيبة لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ.
وقوله حَقًّا منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف، أى:أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا.
والتنوين في قوله دَرَجاتٌ للتعظيم والتهويل أى:لهم درجات رفيعة، ومنازل عظيمة، وفي وصف هذه الدرجات بأنها عِنْدَ رَبِّهِمْ مزيد تشريف لهم، ولطف بهم، وإيذان بأن ما وعدهم به متيقن الوقوع، لأنه وعد من كريم لا يخلف وعده- سبحانه- وفي وصف الرزق الذي أعده لهم بالكرم، زيادة في إدخال السرور على قلوبهم لأن لفظ الكريم يصف به العرب كل شيء حسن في بابه، بحيث يكون لا قبح فيه ولا شكوى معه.
وبذلك نرى أن أصحاب تلك الصفات الحميدة قد مدحهم الله- تعالى- مدحا عظيما، وكافأهم على إيمانهم الحق بالدرجات العالية، والمغفرة الشاملة، والرزق الكريم:ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
هذا، وقد استنبط العلماء من تلك الآيات جملة من الأحكام والآداب منها:
1- حرص الصحابة على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم.
فإن قيل:كيف تأتى لأصحابه الذين شهدوا بدرا- وهم من هم في عفتهم وزهدهم- أن يختلفوا في شأن الغنائم.
فالجواب،، أن بعض الصحابة المشتركين في هذه الغزوة هم الذين حدث بينهم الخلاف في شأنها لأنهم لم يكن لهم عهد سابق بكيفية تقسيمها، أما أكثر الصحابة فإنهم لم يلتفتوا إلى هذه الغنائم، بل تركوا أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها كيف يشاء.
وأيضا فإن هؤلاء الذين حدث بينهم الخلاف في شأن الغنائم، كان من الدوافع التي دفعتهم إلى هذا الخلاف، ما فهموه من أن حيازة الغنائم تدل على حسن البلاء، وشدة القتال في سبيل الله، فكان كل واحد منهم يحرص على أن يظهر بهذا المظهر المشرف وهم في أول لقاء لهم مع أعدائهم.
وعند ما جاوز هذا الحرص حده، بأن غطى على ما يجب أن يسود بينهم من سماحة وصفاء، نزل القرآن ليربيهم بتربيته الحكيمة، وليؤدبهم بأدبه السامي، وليخبرهم بحكم الله في شأن هذه الأنفال.. وبعد أن عرفوا حكم الله في شأنها، قابلوه بالرضا والإذعان والتسليم.
2- أن القرآن في ترتيبه للحوادث، لا يلزم سردها على حسب زمن وقوعها، وإنما يرتبها بأسلوبه الخاص الذي يراعى فيه مقتضى حال المخاطب.
فلقد افتتحت السورة التي معنا بالحديث عن الغنائم التي غنمها المسلمون في بدر- مع أن ذلك كان بعد انتهاء الغزوة- ليشعر المخاطبين من أول الأمر أن النصر في هذه الغزوة كان للمسلمين، وأن الإسلام قد صرع الكفر منذ أول معركة نازله فيها.
وهذا اللون من الافتتاح هو ما يعبر عنه البلغاء ببراعة الاستهلال.
ولقد أفاض بعض العلماء في شرح هذا المعنى فقال ما ملخصه.
وقد بدأت السورة بموضوع الأنفال واختلافهم في قسمتها وسؤالهم عنها، فساقت في ذلك أربع آيات، هن:يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ.. إلى قوله- وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.
وقد عالجت هذه الآيات نفوس المؤمنين، وعملت على تطهيرها من الاختلاف الذي ينشأ عن حب المال والتطلع إلى المادة، ولا ريب أن حب المال والتطلع إلى المادة من أكبر أسباب الفشل.
ولأهمّيّة هذا الموضوع في حياة المؤمنين بدأت به السورة، وإن كان اختلافهم في قسمة الأنفال متأخرا في الوجود عن اختلافهم في الخروج إلى بدر، وقتال الأعداء.
وقد عرفنا من سنة القرآن في ذكر القصص والوقائع أنه لا يعرض لها مرتبة حسب وقوعها، وذلك لأنه لا يذكرها على أنها تاريخ يعين لها الوقت والمكان، وإنما يذكرها لما فيها من العبر والمواعظ، ولما تتطلبه من الأحكام والحكم.
وقد بدأت السورة بالحديث عن الأنفال للمسارعة من أول الأمر بنتائج النصر الذي كفله الله للمؤمنين.
وليس من تربية النفوس أن نبدأ الكلام معها بما يدل على الاضطراب والفزع والتردد أمام وسائل العزة والشرف، متى وجد لهم بجانب هذا التردد ما يدل على مواقف الشرف والكرامة..
ولا كذلك يكون الأمر إذا بدئت ببيان تثاقلهم في الخروج إلى الغزوة، وانظر كيف يكون وقع المطلع إذا جاء على هذا الوجه «كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ... إلخ» .
لا ريب أنه مطلع شديد الوقع على النفوس، يصور علاقة المؤمنين بنبيهم في صورة يأباها إيمانهم به وامتثالهم لأمره. يصورهم في شقاق واختلاف مع قائدهم ورسولهم ويصورهم في ثوب الكراهية الشديدة لمعالي الأمور وعز الحياة.
لهذا كله جاء الأسلوب في سرد الوقائع غير مكترث بمخالفة ترتيبها في الوجود الخارجي.
3- استدل جمهور العلماء بقوله- تعالى- وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً على أن الإيمان يزيد وينقص..
ومن المفسرين الذين بسطوا القول في هذه المسألة الإمام الآلوسى، فقد قال ما ملخصه:
قوله- تعالى- وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ أى:القرآن زادَتْهُمْ إِيماناً أى:
تصديقا كما هو المتبادر، فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج مما لا ريب في كونه موجبا لذلك.
وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يقبل الزيادة والنقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، وبه أقول لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلا.
بل قد احتج عليه بعضهم بالعقل- أيضا- وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي، مساويا لإيمان الأنبياء والملائكة، واللازم باطل فكذا الملزوم.
وقال النووي:إن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها، فكذا التصديق والمعرفة يتفاضلان بحسب ظهور البراهين وكثرتها.
وذهب الإمام أبو حنيفة وكثير من المتكلمين إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واختاره إمام الحرمين، محتجين بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان، وذلك لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان فالمصدق إذا أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا، وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة.
وذهب جماعة منهم الإمام الرازي إلى أن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه وعدمهما لفظي، وهو فرع تفسير الإيمان، فمن فسره بالتصديق قال:إنه لا يزيد ولا ينقص، ومن فسره بالأعمال مع التصديق قال:إنه يزيد وينقص، وعلى هذا قول البخاري «لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وهو المعنى بما روى عن ابن عمر أنه قال. قلنا يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص، قال، نعم، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار.
ويبدو لنا أن رأى جمهور العلماء في هذه المسألة، أولى بالقبول لأنه من الواضح أن إيمان الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- أرسخ وأقوى من إيمان آحاد الناس، ولأنه كلما تكاثرت الأدلة كان الإيمان أشد رسوخا في النفس وأعمق أثرا في القلب، فلا تزلزله الشبهات ولا تزعزعه العوارض والفتن.
ومن أوضح الأدلة على أن الإيمان يقوى بقوة البرهان إلى درجة الاطمئنان، ما حكاه الله- تعالى- عن إبراهيم في قوله:وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ:بَلى، وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.
فهذه الآية تدل دلالة واضحة على أن مقام الطمأنينة في الإيمان، يزيد على ما دونه من الإيمان المطلق قوة وكمالا. إن إبراهيم- عليه السلام- لا شك أنه كان مؤمنا عند ما سأل ربه هذا السؤال، سأله ذلك لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة أعلى:وهي مرتبة عين اليقين ...
هذا، وشبيه بهذه الآية في الدلالة على قبول الإيمان للزيادة والنقصان قوله- تعالى-:
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً...
وقوله- تعالى-:هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ...
وقوله- تعالى-:وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ.
وقوله- تعالى-:وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي وردت في هذا المعنى.
4- في هذه الآيات الكريمة تربية ربانية للمؤمنين، وتوجيه لهم إلى ما يسعدهم، وإرشاد لهم إلى أن المؤمن الصادق في إيمانه، هو الذي يجمع بين سلامة العقيدة، وسلامة الخلق، وصلاح العمل، وأن المؤمن متى جمع بين هذه الصفات ارتفع إلى أعلى الدرجات، وأحس بحلاوة الإيمان في قلبه..
روى الحافظ الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصارى أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:«كيف أصبحت يا حارث» ؟ قال:أصبحت مؤمنا حقا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:«انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك» ؟ فقال الحارث:عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلى، وأظمأت نهاري. وكأنى أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأنى أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال صلى الله عليه وسلم:«يا حارث عرفت فالزم» ثلاثا.
ثم أخذت السورة- بعد هذا الافتتاح المشتمل على أروع استهلال وأبلغه وأحكمه..، في الحديث عن الغزوة التي كان من ثمارها تلك الأنفال، فاستعرضت مجمل أحداثها، وصورت نفوس فريق من المؤمنين الذين اشتركوا فيها أكمل تصوير، استمع معى- أخى القارئ- بتدبر وتعقل إلى قوله- تعالى-: