{ أولئك هم المؤمنون حقا} أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات كلها هم دون سواهم ممن لم يتصف بها المؤمنون إيمانا حقا أو حق الإيمان الذي لا نقص فيه ، أو حق ذلك حقا أو حققته حقا ، ذلك بأن الإيمان حق الإيمان وهو ما أعقب التصديق الإذعاني فيه أثره من أعمال القلوب والجوارح وبذل المال في سبيله عز وجل .وقد جمعت الصفات التي وصفوا بها كل ذلك بحيث تتبعها سائر شعب الإيمان ، تقول العرب فلان شاعر حقا أو فارس حقا لمن نبغ في الشعر ولمن كملت فيه صفات الفروسية .روى الطبراني بسند ضعيف يؤثر للعبرة عن الحارث بن مالك الأنصاري رضي الله عنه أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ( كيف أصبحت يا حارثة ؟ ) قال أصبحت مؤمنا حقا .قال:( انظر ماذا تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ ) فقال عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها .فقال:( يا حارثة عرفت فالزم ) ثلاثا .وروي عن الحسن أن رجلا سأله أمؤمن أنت ؟ قال الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله تعالى:{ إنما المؤمنون} ...فوالله لا أدري أنا منهم أم لا .
ثم بين تعالى جزاء هؤلاء المؤمنين الكملة فقال:{ لهم درجات عند ربهم} الدرجات منازل الرفعة ومراقي الكرامة وكونها عند الرب تعالى وذكره مضافا إلى ضميرهم تنبيه إلى عظم قدر هذه الدرجات وتكريم لأهلها ، فإن الله تعالى فضل بعض الناس ورفعهم على بعض درجة أو درجات في الدنيا وفي الآخرة وعند الرب عز وجل وهذا الأخير وإن كان يكون في الآخرة فإن وصفه بكونه عند الرب وبإضافة اسم الرب إلى أصحاب الدرجات يدل على مزيد رفعة واختصاص .
وإذا أردت أن تفقه معنى الدرجات في التفاضل بين الناس فتأمل قوله تعالى بعد بيان تساوي الرجال والنساء في الحقوق{ وللرجال عليهن درجة} [ البقرة:228] وهي درجة الولاية العامة والخاصة .وقوله تعالى في فضل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين{ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما} [ النساء:94 ، 95] وهنا جمع بين الدرجة والدرجات فقيل الدرجة تفضيلهم في الدنيا وقيل منزلتهم عند الله تعالى والدرجات منازلهم في الجنة .
وفي معناه قوله تعالى في تفضيل الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله على سقاية الحاج من سورة التوبة{ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون} [ التوبة:20] الخ الآيتين بعدها .وقال تعالى في بيان التفاوت والبعد بين متبعي رضوانه ومتبعي سخطه من سورة آل عمران{ هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون} [ آل عمران:163] والظاهر أن العندية هنا عندية الحكم أو الجزاء لا المكانة لأنها محمولة على الفريقين .وقال تعالى في الرسل:{ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} [ البقرة:253] الآية قالوا هذه لنبينا صلى الله عليه وسلم ، وقال تعالى في إبراهيم عقب ذكر محاجته لقومه{ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء} [ الأنعام:84] وقال في سياق قصة يوسف مع إخوته عقب ذكر أخذه لأخيه الشقيق منهم بوجه شرعي{ كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم} [ يوسف:76] .
وقال في درجات الدنيا وحدها وهي آخر آية من سورة الأنعام:{ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} [ الأنعام:167] وقال في درجات الدار الآخرة بعد بيان التفاضل في الرزق بين الكفار مريدي الدنيا وحدها والمؤمنين مريدي الآخرة{ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} [ النحل:21] .
وجملة القول إن الله خلق البشر متفاوتين في الاستعداد والعقول والأعمال واقتضى ذلك بنظام سننه في خلقه تفضيل بعضهم على بعض درجات في الدنيا وفي الآخرة وفي المكانة عند ربهم وهذه الأخيرة عليا الدرجات وأفضلها .
وقوله تعالى:{ ومغفرة ورزق كريم} معناه ولهم مغفرة من الله لذنوبهم الحقيقية التي سبقت وصولهم إلى درجة الكمال إن كانت كبيرة وما كان من قبيل اللمم ، ولذنوبهم الإضافية التي يحاسبون بها أنفسهم بعد بلوغ الكمال كالغفلة عن ذكر الله حينا ، وترك الأفضل إلى ما دونه حينا آخر ، وفوت بعض أعمال البر الممكنة أحيانا ، وأمثال ذلك مما يعبر عنه بحسنات الأبرار سيئات المقربين ، ورزق كريم في الجنة ، والكريم تصف به العرب كل شيء حسن في بابه لا قبح فيه ولا شكوى منه .