قوله تعالى:{من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ( 106 ) ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ( 107 ) أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون ( 108 ) لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ( 109 )} .( من كفر بالله ) ،بدل من ( الذين لا يؤمنون ) ،وما بينهما اعتراض .أو بدل من الإشارة: ( أولئك ) ،أو من قوله: ( الكاذبون ) ،أو مبتدأ وخبره محذوف دل عليه قوله: ( فعليهم غضب ) ،وقيل: منصوب على الذم ،وهو قول الزمخشري{[2617]} .وروي في سبب نزول هذه الآية أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسمية على الارتداد ،فربطوا سمية بين بعيرين وجيء بحربة في قُبُلها ،وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال ،فقتلت ،وقتلوا ياسرا ،وهما أول قتيلين في الإسلام ،أما عمار فأعطاهم بلسانه ما أرادوا مكرها .فقيل: يا رسول الله إن عمارا كفر فقال:"كلا ،إن عمارا ملئ إيمانا من فوقه إلى قدمه ،واختلط الإيمان بلحمه ودمه ."فأتى عمار رسول الله ( ص ) وهو يبكي ،فجعل رسول الله ( ص ) يمسح عينيه فقال::مالك ؟إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ".وهو يدل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه ،وإن كان الأفضل اجتنابه ؛إعزازا لدين الله ،وإظهارا للحق كما فعله أبواه ياسر وسمية ؛فقد روي أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد ؟قال: رسول الله . قال: فماذا تقول فيّ ؟فقال: أنت أيضا ،فخلاه ،وقال للآخر: ما تقول في محمد .قال: رسول الله .قال: فما تقول فيّ قال: أنا أصم .فأعاد عليه ثلاثا ،فأعاد جوابه فقتله ،فبلغ ذلك رسول الله ( ص ) فقال:"أما الأول فقد أخذ برخصة الله .وأما الثاني فقد صدع بالحق ،فهنيئا له "{[2618]} .
قوله: ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) ،أي: من كفر فتكلم بالكفر بلسانه ،وقلبه مؤمن بالإيمان لينجو من بلاء خطير حل به ؛فلا حرج عليه في ذلك ؛لأن الله يؤاخذ العباد بما تعمدت قلوبهم ،ويعفو لهم عن الظاهر المخالف لما يكنه القلب .لاجرم أن ذلك فضل من الله عظيم ،ورحمة منه بالغة وواسعة يفيض بها على المكروبين والمقهورين والمكرهين ،فينجون من المساءلة والحساب .
قوله: ( ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) لكن .استدراك{[2619]} ؛أي: من أتى الكفر مختارا راغبا وقد طاب به نفسا ،غير مكره ولا مستحسر ؛فأولئك عليهم من الله غضب ،وهم صائرون يوم القيامة إلى العذاب العظيم وهي النار .