/ت109
وقوله تعالى:
/ [ 106]{ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم 106} .
تنبيهات:
الأول:{ من} في قوله تعالى:{ من كفر} ،موصول مبتدأ ،خبره:{ فعليهم غضب} .
وقوله:{ إلا من أكره} ،استثناء مقدم من حكم الغضب .وقوله:{ ولكن من شرح بالكفر صدرا} ،رجوع إلى صدر الآية وحكمها ،بأسلوب مبيّن لمن كفر ،موضح له .بمثابة عطف البيان أو عطف التفسير .وهذا الوجه من الإعراب لم أره لأحد ،ولا يظهر غيره لمن ذاق حلاوة أسلوب القرآن .
الثاني:استدل بالآية على أن المكره غير مكلف .وأن الإكراه يبيح التلفظ بكلمة / الكفر ،بشرط طمأنينة القلب على الإيمان .واستدل العلماء بالآية على نفي طلاق المكره ،وعتاقه ،وكل قول أو فعل صدر منه .إلا ما استثنى .أفاده السيوطي في ( الإكليل ) .
الثالث:روي عن ابن عباس{[5327]}: "أنها نزلت في عمار بن ياسر حين عذّبه المشركون حتى يكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم .فوافقهم مكرها .ثم جاء معتذرا "قال ابن جرير{[5328]}: "أخذ المشركون عمارا فعذبوه .حتى قاربهم في بعض ما أرادوا .فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم .فقال له:كيف تجد قلبك ؟ قال:مطمئنا بالإيمان .قال صلى الله عليه وسلم:إن عادوا فعد ".
وقال ابن إسحاق{[5329]}:إن المشركين عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين .فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش .وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر .يفتنونهم عن دينهم .فمنهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه .ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم .وكان بلال رضي الله عنه عبدا لبعض بني جمح .يخرجه أمية بن خلف ،إذا حميت الظهيرة ،فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة .ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره .ثم يقول له:لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزّى .فيقول ( وهو في ذلك البلاء ):أحد .أحد حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه .
وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه ،رضي الله عنهم ،إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة .فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "صبرا آل ياسر ،موعدكم الجنة ".فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام .
/ قال سعيد بن جبير: "قلت لابن عباس:أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ؟ قال:نعم .والله ! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه ،حتى ما يقدر على أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به ،حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة .حتى يقولوا له:اللات والعزى إلهك من دون الله ؟ فيقول:نعم .حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له:هذا الجعل إلهك من دون الله ؟ فيقول:نعم .افتداء منهم ،مما يبلغون من جهده ".
وقد ذكر ابن هشام{[5330]} في:( السيرة ) في بحث:( عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة ) غرائب في هذا الباب ،فانظره .
قال ابن كثير:ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي ،إبقاء لمهجته .ويجوز له أن يأبى .كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ،وهم يفعلون به الأفاعيل ،وهو يقول: "أحد .أحد "ويقول: "والله ! لو أعلم كلمة أغيظ لكم منها لقلتها ".رضي الله عنه وأرضاه .وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري ،لما قال له مسيلمة الكذاب:أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ فيقول:نعم .فيقول:أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول:لا أسمع .فلم يزل يقطعه إربا إربا وهو ثابت على ذلك .
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذاقة السهميّ ،أحد الصحابة ؛ أنه أسرته الروم .فجاءوا به إلى ملكهم .فقال له:تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي .فقال له:لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب ،على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ،ما فعلت .فقال:إذا أقتلك .فقال:أنت وذاك .فأمر به فصلب .وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه ،وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى .ثم أمر به فأنزل ./ ثم أمر بقدر فأحميت .وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر ،فإذا هو عظام تلوح .وعرض عليه فأبى .فأمر به أن يلقى فيها .فرفع بالبكرة ليلقى فيها فبكى .فطمع فيه ودعاه فقال:إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة .تلقى في هذا القدر الساعة .فأحببت أن يكون لي ،بعدد كل شعرة في جسدي ،نفس تعذب هذا العذاب في الله .
وفي بعض الروايات ؛ أنه سجنه ومنعه الطعام والشراب أياما .ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه .ثم استدعاه فقال:ما منعك أن تأكل ؟ فقال أما هو فقد حلّ لي .ولكن لم أكن لأشمّتك فيّ .فقال له الملك:فقبل رأسي وأنا أطلقك وأطلق جميع أسارى المسلمين .قال:فقبل رأسه .فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده .فلما رجع قال عمر بن الخطاب: "حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة .وأنا أبدأ ،فقام فقبل رأسه ".