أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر ، وشرح صدره بالكفر واطمأن به:أنه قد غضب عليه ؛ لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه ، وأن لهم عذابا عظيما في الدار الآخرة ; لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا ، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق ، فطبع على قلوبهم فلا يعقلون بها شيئا ينفعهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها ، ولا أغنت عنهم شيئا ، فهم غافلون عما يراد بهم .
( لا جرم ) أي:لا بد ولا عجب أن من هذه صفته ، ( أنهم في الآخرة هم الخاسرون ) أي:الذين خسروا أنفسهم وأهاليهم يوم القيامة .
وأما قوله:( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها لما ناله من ضرب وأذى ، وقلبه يأبى ما يقول ، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله .
وقد روى العوفي عن ابن عباس:أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فوافقهم على ذلك مكرها وجاء معتذرا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله هذه الآية . وهكذا قال الشعبي ، وأبو مالك وقتادة .
وقال ابن جرير:حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن أبي عبيدة [ بن] محمد بن عمار بن ياسر قال:أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا ، فشكا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"كيف تجد قلبك ؟ "قال:مطمئنا بالإيمان قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"إن عادوا فعد ".
ورواه البيهقي بأبسط من ذلك ، وفيه أنه سب النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر آلهتهم بخير ، وأنه قال:يا رسول الله ، ما تركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير . قال:"كيف تجد قلبك ؟ "قال:مطمئنا بالإيمان . فقال:"إن عادوا فعد ". وفي ذلك أنزل الله:( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) .
ولهذا اتفق العلماء على أنه يجوز أن يوالي المكره على الكفر ؛ إبقاء لمهجته ، ويجوز له أن يستقتل ، كما كان بلال - رضي الله عنه - يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل ، حتى أنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ، ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول:أحد ، أحد . ويقول:والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها - رضي الله عنه وأرضاه - . وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب:أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ فيقول:نعم . فيقول:أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول:لا أسمع . فلم يزل يقطعه إربا إربا وهو ثابت على ذلك .
وقال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، أن عليا - رضي الله عنه - حرق ناسا ارتدوا عن الإسلام ، فبلغ ذلك ابن عباس فقال:لم أكن لأحرقهم بالنار ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا تعذبوا بعذاب الله ". وكنت قاتلهم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"من بدل دينه فاقتلوه "فبلغ ذلك عليا فقال:ويح أم ابن عباس . رواه البخاري .
وقال الإمام أحمد أيضا:حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن أيوب ، عن حميد بن هلال العدوي ، عن أبي بردة قال:قدم على أبي موسى معاذ بن جبل باليمن ، فإذا رجل عنده ، قال:ما هذا ؟ قال رجل كان يهوديا فأسلم ، ثم تهود ، ونحن نريده على الإسلام منذ - قال:أحسب - شهرين فقال:والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه ، فضربت عنقه . فقال:قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه - أو قال:من بدل دينه فاقتلوه .
وهذه القصة في الصحيحين بلفظ آخر .
والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ، ولو أفضى إلى قتله ، كما قال الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي أحد الصحابة:أنه أسرته الروم ، فجاءوا به إلى ملكهم ، فقال له:تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي ، فقال له:لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب ، على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلت ! فقال:إذا أقتلك ، قال:أنت وذاك ، فأمر به فصلب ، وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه ، وهو يعرض عليه دين النصرانية ، فيأبى ثم أمر به فأنزل ، ثم أمر بقدر - وفي رواية ببقرة من نحاس - فأحميت ، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر ، فإذا هو عظام تلوح ، وعرض عليه فأبى ، فأمر به أن يلقى فيها ، فرفع في البكرة ليلقى فيها ، فبكى فطمع فيه ودعاه فقال له:إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة ، تلقى في هذه القدر الساعة في الله ، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله . وفي بعض الروايات:أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أياما ، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير ، فلم يقربه ، ثم استدعاه فقال:ما منعك أن تأكل ؟ فقال:أما إنه قد حل لي ، ولكن لم أكن لأشمتك في ، فقال له الملك:فقبل رأسي وأنا أطلقك ، فقال:وتطلق معي جميع أسارى المسلمين ؟ قال:نعم . فقبل رأسه ، فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده ، فلما رجع قال عمر بن الخطاب:حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا أبدأ ، فقام فقبل رأسه .