قوله تعالى:{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} ،هذا الخطاب من الله لرسوله ( ص ) وهو يدعو العرب المشركين إلى دين الله ؛إذ يأمره ربه أن يدعو الناس إلى الإسلام ( بالحكمة ) ،أي: بالقول السديد المحكم وفي تلطف ولين ،بعيدا عن المخاشنة والتعنيف وأن يدعوهم كذلك بالموعظة الحسنة وهي الكلام المؤثر النافذ إلى القلوب .الكلام الذي يختلط فيه الترغيب بالترهيب ،والإنذار بالبشرى ؛ليكون ذلك سبيلا إلى ترقيق القلوب وشحنها بالود والرغبة في دين الله .
قوله: ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) ،أي: خاصمهم مخاصمة رحيمة ودود ،وذلك بالأسلوب الذي هو أحسن من غيره من الأساليب ،وذلك بالرفق واللين دون أسلوب الفظاعة التي تنفر منها الطبائع ؛بل بما يوقظ القلوب إيقاظا ،ويجلو العقول مما تلبس بها من الشبهات والظنون وفاسد الأخبار والمعلومات .
لا جرم أن الطبائع البشرية إنما ترق وتجنح في الغالب للرقيق من القول واللطيف من الكلمات والعبارات .وهي أشد ما تنفر وتألم من قسوة الأساليب التي تثير في النفوس المضاضة ،وتهيج في القلوب الحزن والامتعاض ؛فالذين يدعون إلى دين الله يناط بهم أن يدعوا الناس إلى هذا الدين بما يرغبهم فيه ترغيبا .وذلك بالكلمات الرفيقة الحانية ،والطريقة الرحيمة النافذة .
على أن هذه الآية العظيمة محكمة .وهي في حق الذين يدعون إلى رسالة الإسلام بيان لهم على مرّ الزمان ،يمضون في ضوئه وهم يدعون الناس على بصيرة .يدعونهم بالأسلوب الرحيم .الأسلوب السديد ،النافذ إلى قلوبهم عسى أن يرققها ترقيقا ،أو يفضي إلى تعرفهم على الإسلام فيرغبهم فيه .وإذا لم تؤثر هذه الوسيلة الرفيقة من حسن الموعظة والجدال ولم تجد سبيلها إلى القلوب والعقول ،وأيقن المسلمون أن مخالفيهم معاندون جاحدون وأنهم متربصون ماكرون ،نظروا بعد ذلك فيما هو أجدى وأنفع من الوسائل والأساليب صونا لعقيدتهم من التشويه والضياع ،ولأوطانهم وكراماتهم من الإبادة .
قوله: ( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) ،أي: ليس عليك إلا التبليغ ،فتدعو الناس إلى توحيد وعبادة الله وطاعته وحده ،وذلك بالموعظة الحسنة والكلام الرفيق السديد .والناس مختلفون في استعدادتهم وفطرهم .ولكل نفس فطرة مخصوصة وماهية مخصوصة ،فمن بنيت فطرته على الجنوح للدين والتشبث بحبل الله ؛فقد اهتدى .ومن كانت فطرته متلبسة بالجحود والقسوة والنفور من الحق ؛فإنه لا محالة صائر إلى الضلال ،ولن تجدي معه بعد ذلك المواعظ والدروس والنذر .والله جل وعلا هو أعلم بنفوس البشر جميعا ،فيعلم المهتدي منهم والضال .