بعد أن ذكر حال اليهود ، وأشار إلى عنادهم ، وفصل القول في حال المشركين وإيذائهم أمر الله رسوله أن يستمر في دعوته لا يألوا ، فهو مكلف التبليغ مهما تكن مناوأة المناوئين ، فقال تعالت قدرته:
{ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ( 125 )} .
صدع النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه بعد أن أنذر عشيرته وعمت دعوته ربوع البطحاء ، وتجاوبت أصداؤها في أرض الجزيرة العربية ، وصار الناس يتعرفون أمر هذه الدعوة ، وتجردت قريش مناوئة بكل مما أوتيت من قوة آذت الضعفاء وفتنتهم عن دينهم وهاجر إلى الحبشة من هاجر فرارا بدينه وحماية ليقينه ، فهل يضعف ذلك من ندائه بقوة الحق ، والإيمان ، وهل يخرجه ذلك عن حد الحكمة ، بل إنه يستمر هاديا مرشدا ؛ ولذا جاء أمر الله بأن يستمر في دعوته بالحكمة والموعظة ولا يخرجه ما يفعلون إلى غير ذلك ، فقال تعالى:{ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} ادع مبلغا رسالة ربك ومتبعا سبله وهدايته إلى سبيل ربك ، وسبيل الله هو الصراط المستقيم وهو التوحيد وشريعته التي لا عوج فيها ولا أمت بل وهو سبيل الحق على الدليل الهادي والبرهان القاطع ، والموعظة هي بيان العبر ، وضرب الأمثال بما وقع للماضين ، وهي المثلات التي وقعت للناس ، والموعظة تشمل هذا وتشمل بيان منافعهم في إجابة دعوة الله ، والمضار التي تنزل بهم إن أعرضوا وضلوا عن سواء السبيل .
وبيان الفرق بين الحكمة والموعظة أن الحكمة ذكر الأدلة على التوحيد التي لا يفهما إلى الراشدون الذين يدركون الدليل ومقدماته ، والموعظة ذكر عواقب الضلال من الحوادث الماضية التي وقعت بالضالين المضلين ، والقرآن الكريم قد اشتمل على والموعظة ، ففيه بيان آيات الله في الكون من خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم المسخرات بأمره وإنزال الماء وإنبات النبات وفلق الحب والنوى ؛ فهذا كله من الحكمة ، وفيه قصص الأمم السابقة وما نزل بالعصاة من خسف وزلزل وريح صرصر عاتية ، وهذا من الموعظة الحسنة ؛ ولذا قال بعض المفسرين{ بالحكمة والموعظة الحسنة} القرآن لأنه يشتمل عليها ، ووصفت الموعظة بالحسنة لسهولة قبولها ، أو يتخير الرسول أسهلها على النفس ، وأحسنها توصيلا للحق الله الهادي إلى سبيل الرشاد .
أمره سبحانه أن يدعوهم بالحكمة والموعظة وأن يجادلهم بالتي هي أحسن فقال تعالى:{ وجادلهم بالتي هي أحسن} ، أي بالطريقة التي هي أحسن في التوصيل إلى الإقناع ، فإن لم يكن إقناع فتقريب ، فإن لم يكن تقريب لا يكن تنفير ، فهو يبين لهم الحق من غير مخاشنة وإن خاشنوه ، وفي غير غضب وإن غاضبوه ، فالنبي لا يغضب ولكن يهدي فلا يفجؤهم بما لا يحبون ، بل يأتيهم بالحق مما يحبون مادام لم يكن باطلا ، ولا يكون جافيا في قول أو خلق ، ولا يكون غليظا بادي الغلظة ، بل يكون ودودا بادي المودة ، من غير أن يكون مداهنا في حق ، فإن المشركين يودون أن يكون مداهنا في الحق كما قال تعالى:{ ودوا لو تدهن فيدهنون ( 9 )} [ القلم] .
{ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} .
أمر الله نبيه بأن يبذل غاية الجهد في الدعوة من غير مغاضبة بل بالمودة والملاينة والرفق في القول والعمل ، والمجادلة من غير مشاحنة ولا مخاصمة ، بحيث يكونون في جانب ، وهو في جانب ، ولا يظن أنه بذلك يتأكد إيمانهم فإن منهم من يضل ، ومنهم المهتدي ، وعليه التبليغ ، وليس عليه الهداية ؛ ولذا قال:{. . .فإنما عليك البلاغ . . .( 40 )} [ الرعد] ، وقال في هذه الآية:{ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} هذا النص السامي كأنه جواب عن استفهام مقدر في القول:أبعد الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن يكون الإيمان لا محالة ؟ ، فأجاب سبحانه:فيهم من كتب عليه الضلال وفيهم المهتدي .
{ إن ربك} الذي يعلم كل شيء لأنه رب الإنسان والوجود{ أعلم بمن ضل عن سبيله} ، أي بمن سلك سبيل الضلالة وأوغل فضل{ وهو أعلم بالمهتدين} .
وتقول:إن أفعل التفضيل ليس على بابه ؛ لا مفاضلة بين عليم الله وعلم أحد ، وإنما الذي يقصد من أفعل التفضيل أن علمه بلغ أقصى درجات العلم فلا علم فوق علمه سبحانه .
ويلاحظ أنه يعبر عن الضالين بالفعل ،{ ضل} ، وعن الذين هداهم الله تعالى{ بالمهتدين} ؛ للإشارة إلى أن الضلال مخالف للفطرة حادث عارض لها ، ولذا عبر بالفعل الماضي ، وأما الهداية فهي الفطرة ، ولذا عبر عنها بالوصف الذي يدل على الدوام ، فقال:{ وهو اعلم بالمهتدين} .