الإشارة على اليهود والدعوة بالحكمة
بين الله تعالى حال المشركين من كفرهم ، وعنادهم وكفرهم بالنعمة يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ، أشار سبحانه إلى الذين يماثلونهم في الكفر وإنكار النعمة ، وهم يكفرون ، وهم اليهود فهم والمشركون أشد الناس بغضا للذين آمنوا ، وقد أشار سبحانه إليهم بيوم السبت ؛ لأنهم الذين اختصوا بتحريمه وإفراده للعبادة وتحريم الصيد فيه ، وفي ذكر المشركين إشارة إلى هذه المماثلة وإلى بيان ما يستقبله النبي صلى الله عليه وسلم وأن له أياما منهم كأيام المشركين معه فلتصطبر لهم كما صبر من قبلك من الرسل حتى اليوم . يقول تعالى:
{ إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} .
أي صير السبت مانعا لهم من مزاولة شئون الحياة للذين اختلفوا فيه ، أي لليهود الذين اختلفوا فيه ، والاختلاف أمارة أن فيهم من لم يذعنوا للحق ويؤمنوا ، فإنه حيث كان الاختلاف كان الذين يلوون ألسنتهم بالقول من غير إذعان للحق والإيمان ، فإن الإيمان يجعل النفوس تقر وتطمئن ولا تنازع ولا تلاحي .
منعوا من الصيد في يوم السبت ، وابتلاهم الله بكثرة السمك فيه ، فيوم يسبتون يأتيهم الصيد ، ويوم لا يسبتون لا يأتيهم ، كما قال تعالى:{ واسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ( 163 )} [ الأعراف] فمن صبر على البلاء وهم قليلون ، كما قال الله تعالى فيهم:{. . .منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ( 66 )} [ المائدة] وكثيرون تمردوا واختلفوا في تمردهم فمنهم من أهمل الحيلة وفتح قنوات يأوى إليها السمك في يوم سبتهم ليأخذوها يوم لا يسبتون ، ومنهم من تمرد كليا ، ولم يطع من غير محاولة التحايل .
هذا اختلافهم في يوم السبت بين صابر لابتلاء الله ، ومتمرد عليه ، ومتحايل كأنما يخذع الله ، وهو معقول في ذاته ومتفق مع طبائع اليهود المادية الذين يأخذون الأحكام بظاهر من القول والعمل ، ويكفرون بالحق في لبابه وصميمه .
وقد قيل إن اختلافهم كان عندما أمرهم موسى بأن يكون يوم الانفراد للعبادة والامتناع عن الصيد يوم الجمعة فأبوا إلا أن يكون يوم السبت ، يروى في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه ، فهدانا الله ، فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدت والنصارى بعد غد"{[1401]} ، وإنما نميل إلى الله ، ولا نخالف السنة .
ثم ختم الله سبحانه وتعالى الكريمة بقوله:{ وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} وإن لله رب الأنبياء ورب محمد ، ورب الوجود{ ليحكم} ، ( اللام ) في خبر إن ، و{ ليحكم} ، أي يفصل وهو خير الفاصلين ، وذكر{ ربك} في هذا المقام لدلالة على عالم محيط ، فحكمه هو الفيصل لعلمه وقدرته وإحاطته بكل شيء علما ، وموضوع الحكم قال سبحانه وتعالى فيه:{ فيما كانوا فيه يختلفون} ، أي ما كانوا يختلفون فيه بشكل عام ، فقد اختلفوا اختلافا كثيرا ، فاختلفوا في عبادة العجل ، واختلفوا بين ( فروشيم ) ، أي مفسرين وصدوقيين ، ومفوضين ، واختلفوا على موسى ومن جاء بعده من الأنبياء ولا يزالون مختلفين ، وهم بعيدون عن رحمة الله تعالى .