وإن ما دعا إليه إبراهيم عليه السلام هو ما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذا قال تعالى:{ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( 123 )} .
إن المشركين كانوا يفاخرون الناس بأنهم من ذرية إبراهيم ، فالنبي يقرهم على هذا الشرف النسبي ، والله تعالى يدعوهم إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لأن الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم الأمي هو ملة إبراهيم ودينه ، والقرآن وحي الله تعالى هو الذي يدعو إلى اتباع ملة إبراهيم ، فأنتم إذ تشركون ، وإذ تعاندون النبي صلى الله عليه وسلم تعاندون إبراهيم وتكفرون بشرف انتسابكم إليه عليه السلام ، وتمسككم بإقامة نسكه ، واعتزازكم ببيت الله الحرام الذي بناه ، وجعله الله مثابة للناس وأمنا ، وقوله تعالى:{ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} فيه ثلاثة أمور بيانية تجب الإشارة إليها:
الأمر الأول – في قوله تعالى:{ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} فيه أن ما يدعوكم إليه من عدم الشرك هو وحي من الله باتباع إبراهيم الذي يعتزون به ، فذلك الوحي هو مما تفخرون وتعتزون فلا تنافروا الداعي ولا تعادوه ، وهو على ملة إبراهيم فسيروا في مفاخركم باتباعها ، وهو مائل عن الشرك غير منحرف إليه .
الأمر الثاني – التعبير ب{ ثم} فإن مؤداها أن إيحاء الله لنبيه صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم هو سمو بإبراهيم أعلى من كل ما سبق ؛ لأن المؤدى في كلمة{ ثم} التي تفيد التراخي أنه سما الأمر بإبراهيم أنه علا حتى صار محمد سيد الخلق تابعا له في ملته ، فالتراخي هنا معنوي بالعلو بين مرتبة خاتم النبيين ومرتبة سيدنا إبراهيم ، وإنه جده ، ولكن محمد فخر نبي عدنان وفخر الإنسانية كلها ، أشار إلى ذلك الزمخشري وقال في التعليق عليه الناصر أحمد:
و ( إنما ) تفيد ذلك لأن{ ثم} في أصل وصفها التراخي المعطوف عليه في الزمان ، ثم استعملت في تراخيه عنه في علو المرتبة يكون المعطوف أعلى مرتبة وأشمخ محلا مما عطف عليه ، فكأنه بعد أنه عدد مناقب الخليل عليه السلام قال تعالى وها هنا ما هو أعلى من ذلك كله قدرا وأرفع مرتبة ، وأبعد رفعة ، وهو أن النبي الأمي صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد البشر متبع ملة إبراهيم مأمور باتباعه بالوحي متلو بذلك في القرآن الكريم العظيم ، ففي ذلك تعظيم لهما لكن نصيب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا التعظيم أوفر وأكبر .
الأمر الثالث – أن قوله تعالى:{ أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم} ( أن ) هنا بيانية ، أي تبين معنى الوحي ، فقوله تعالى اتبع ملة إبراهيم تفسير لأوحينا ، فهي أمر باتباع ملة إبراهيم .
وقد ختم الله تعالى النص بقوله تعالى:{ وما كان من المشركين} وهذا تحريض للمشركين على منع الشرك ؛ لأن إبراهيم لم يكن مشركا من وقت نشأنه غلاما صبيا إلى أن توفى بعد عمر مبارك طويل مديد عليه السلام .