قوله تعالى:{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} ذلك إعلان من الله قاطع على أن القرآن معجزة الرسول ( ص ) .والمراد بمعجزته ما أعجز به الخصم عن التحدي .والهاء للمبالغة{[2739]} ،والإعجاز معناه الخروج عن المألوف مع الاقتران بالتحدي وعدم المعارضة من أحد .وذلك هو شأن القرآن الذي جيء به من عند الله بلاغا للناس ،وإنقاذا للعالمين من الضلال في هذه الدنيا وتنجية لهم من الخسران والعذاب في الآخرة .
ولقد جيء بالقرآن على صفته البالغة من الإعجاز ليتحدى الله به العالمين أن يأتوا بمثله .وكان ذلك في زمان كان العرب فيه في أوج نبوغهم من فصاحة الكلم وبراعة اللسان فما استطاعوا أن يأتوا بمثله .
ولقد بينا فيما مضى أن القرآن الكريم تتجلى فيه خصائص شتى من عجيب الصفات ،سواء في اللفظ والعبارة ،أو المعنى والمضمون .والقرآن في ذلك كله يأتي في غاية الكمال والجمال بما ليس له في النظم نظير .وهو في آياته وألفاظه ومقاطعه وعباراته معجز ،لفرط بلاغته الراقية ،وأسلوبه العجيب المميز ،وإيقاعه المؤثر الشجي ،وروعته التي تأخذ بالقلوب والألباب ،وتبهر النفس والوجدان أيما بهر .
وهو كذلك في معانيه ومضامينه معجز .وذلك بما حواه من هائل المعاني والأخبار والمواعظ ،وجليل المشاهد والحكم والقصص ،ومختلف الأوامر والزواجر والأحكام من حلال وحرام وتحذير وتنذير إلى غير ذلك من الحجج والدلائل والبراهين الساطعة في الحياة والطبيعة والإنسان .
ومن أعجب العجب أن يأتي ذلك كله في كتاب ذي حجم متوسط .ولو تكلف البشر أن يأتوا بكل هذه المعاني والمضامين لاستنفد ذلك منهم آلاف الكتب .ولو جهدوا أن يجعلوا كل ذلك في كتاب واحد ذي حجم متوسط كحجم القرآن ؛لجاء كلامهم في غاية التكلف المصنوع والتنافر الثقيل المستقبح .لكن القرآن بتعدد ضروبه في المعاني ،وهائل علومه الكريمة العظام ،وواسع شموله الذي غشي الأولين والآخرين ،وشمل الدنيا والآخرة ،قد جاء في حجمه على غاية الإيجاز لكنه مع ذلك كان في الذروة السامقة من الإعجاز .
فالقرآن بخصائصه العجيبة هذه ومزاياه غير ذات النظير ،قائم يتحدى العالمين ان يأتوا بمثله ؛إذ لم يستطيعوا .وهو قوله سبحانه: ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ) يأمر الله نبيه محمدا ( ص ) بإبلاغ الناس على وجه التأكيد أنه لو اتفقت الإنس والجن- متعاونين فيما بينهم- على الإتيان بمثل القرآن المعجز ( لا يأتون بمثله ) ( لا يأتون ) ،جواب للقسم الموطأ له باللام .وقيل: جواب للشرط{[2740]} .
والمعنى ،أنهم عاجزون عن الإتيان بمثل هذا الكتاب الحكيم ؛إذ لا يستطيعون مضاهاته البتة .ولو علموا من أنفسهم الاقتدار على الإتيان بمثله أو شيء منه لبادروا دون إبطاء أو وناء مبتغين بذلك إحراج النبي ( ص ) والتشكيك في قرآن الله ،بدلا من الاستعداد لهذه المهمة بالحرب كي يواجهوا الإسلام والمسلمين فتزهق بذلك أرواح رجالهم وتفنى أموالهم .وذلك يكشف عن عجزهم الكامل عن محاكاة القرآن أو معارضته ،فضلا عن الإتيان بمثله .( ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) والظهير ،معناه المعين{[2741]} ؛أي لو تكلفوا كل الأسباب والجهود من أجل الإتيان بمثل القرآن- وهم يعين بعضهم بعضا- لعجزوا بالغ العجز ،ولصاروا إلى الخذلان والخسران .
ومن أظهر الأدلة على ذلك ،تلك المحاولات التاعسة المخزية التي انزلق فيها نفر من الأشقياء والمغرورين والمخدوعين من أمثال الكذاب مسيلمة ؛ذلك الجهول الغاشم الذي تولى كِبْره في الأرض ،سادرا في حماقته ،واغتراره ،وهو يزدرد من الكلمات ما هو فاضح وسقيم ومكذوب .فما كان هذا الدجال المأفون إلا مفتريا على الله الباطل من الكلام المضطرب المهين زاعما أنه من عند الله افتراء عليه ،حتى استطار زيفه وشاعت في الآفاق حماقته وبات على الدوام مدعاة للعن اللاعنين وسخرية المستسخرين{[2742]} .