قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم وإياي فارهبون وءامنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين (إسرائيل اسم عجمي لا يقبل الصرف ومعناه عبد الله ،وهو مرادف ليعقوب النبي عليه السلام ،والله جلت قدرته يخاطب في هذه الآية اليهود وهم بنو إسرائيل ومن نسله وذلك لعبثهم في الأرض تخريبا وإفسادا على ما سوف نبين إن شاء الله يدعو الله هؤلاء اليهود أن يذكروا نعمته التي امتن بها عليهم ،والذكر يكون بالقلب ،كيلا ينسى ،وباللسان كي يظل رطيبا بالشكران .
أما نعم الله التي أنعمها على بني إسرائيل فهي كثيرة وعظيمة لا نحسب أن أمة من الأمم قد أتيح لها مثل هذه النعم ،ومن أنعم الله على بني إسرائيل أن جعل لهم في البحر طريقا يبسا يمشون فيه إلى أن كتب لهم الخلاص والنجاة من فرعون وجنوده الذين غشيهم من الإغراق في اليم ما غشيهم ،وكذلك قد فجر الله لهم من الحجر الصلد ،ماء دافقا يستقون منه جميعا بعد أن ضربه موسى بعصاه ،ثم أنعم الله عليهم بالمن والسلوى وذان طعامان جيدان مهيئان يأكل منهما اليهود من غير أن يبذلوا عناء أو مشقة ،ثم أظلهم الله بالغمام ليذرأ عنهم حر الشمس في الصحراء الممتدة التي لا يعمرها نبات ولا ظل ،وكذلك قد أنعم الله على بني إسرائيل إذ بعت فيهم نبيين كثيرين ،وجعلهم ملوكا وأعطاهم من الخيرات ما لم يعط أحدا غيرهم ،ومن أجل ذلك فإن الله يذكرهم بقوله: (اذكروا نعمتي (.
ومن لطيف القول أن يدرك المتدبر هذه المفارقة وهو يتلو تذكير الله سبحانه لأمة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (فاذكروني أذكركم (فهو لم يقل كما قال لبني إسرائيل (اذكروا نعمتي (لما في ذلك من تذكير بالخير والنعمة ليخلصوا من بعد ذلك إلى ذكر الخالق سبحانه ،وفي التذكير بالنعمة ما يشير إلى كثرة المنن التي أفاض الله بها على بني إسرائيل ،وفيه كذلك مخاطبة الله لأمة الإسلام جاءت لتهتف بالقلوب والأذهان جميعا من أجل أن تتذكر جلال الله ولتقدره حق قدره وذلك على نحو مباشر لا يحتاج إلى تذكير بالنعمة إذ قال (فاذكروني أذكركم (.
قوله: (وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم (الجملة الأولى للطلب والثانية جوابه ،والله جلت قدرته يطلب من بني إسرائيل أن يوفوا بعهده ،وهو هنا عام يتناول جميع الأوامر وما كلفوا به وعلى الأخص التكليف بأن يؤمنوا بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم ،إذ كان مكتوبا عندهم في التوراة فكان اسمه بذلك واضحا مستبينا لا يقبل المداهنة أو التحريف ،فهو سبحانه يسجل كل ذلك عهدا عليهم ،ويأمرهم أن يوفوا به ليوفيهم بعهدهم وهو أن يكتب لهم الخير والسلامة في الدنيا ،وفي الآخرة لهم منه الجنة ونعم الجزاء الكريم المقيم .
قوله: (وإياي فارهبون (من الرهبة أو الرهب وهو الخوف ،إياي مفعول به لفعل محذوف مقدر وتقديره: إياي ارهبوا فارهبون ،وذلك خطاب من الله لبني إسرائيل ليخافوه فيبادروا بالطاعة ويتجنبوا المعصية ،وأصل ذلك كله الخوف من الله جلت قدرته ،وهو إذا ما خيف فقد تورع المرء عن التورط فيما يسيء الى جنابه الكريم ،وانزجر عما نهى عنه الإله وحذر في كتابه وعلى لسان أنبيائه .