قوله: (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم (إذ في محل نصب على الظرفية الزمانية ،وفرقنا من الفرق بالفتح والسكون وهو يبعني فصل أبعاض الشيء ،والفرق بين الحق والباطل معناه الفصل بينهما ،وذلك كقوله سبحانه: (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين (والفرقان هو القرآن سمي بذلك ،لأنه يفرق أو يفصل بين الحق والباطل ومفرق الرأس وسطه الذي يفصل بين دفتي شعر الرأس ،وقوله: (فرقنا (هنا أي فصلنا البحر ،أو فلقناه بعضه عن بعض فلقا ،وذلك لكم أنتم با بني إسرائيل ،وعلى هذا فإن الباء في بكم تعني اللام كما قيل ،وقيل غير ذلك .
على أن قصة انفلاق البحر لبني إسرائيل وقائدهم موسى عليه السلام معروفة ومبينة في كتب التفسير بوضوح وإسهاب ،وكل الذي نبينه هنا أن بني إسرائيل بعد أن نجوا من سطوة فرعون ،وهربوا من ويله وسلطانه اتبعهم فرعون بجنوده المسخرين المستخفين ،وهم حشود كبيرة من الرجال الأشرار وذلك ليعيدهم إلى نفوذه وطغيانه ،ولقد ظل بنو إسرائيل هاربين واجفين مذعورين لا يلوون على شيء حتى بلغوا البحر فوقفوا بساحله واجمين حيارى لا يقدرون على شيء وكلما دنا منهم فرعون وجنوده ازدادوا هلعا وفرقا ،وغشيتهم غاشية مريعة من الخوف والاضطراب ،وهم في مثل هذا الموقف الموئس العصيب كانوا يجأرون بالصياح المستغيث في وجه موسى عليه السلام/ ليخلع عنهم هذا الخطر القائم المحدق ،الخطر الذي يوشك أن يسوقهم إلى الموت على يد فرعون وجلاديه المجرمين ،ثم جاء الفرج بعد ذلك فتمخض العسر عن أجلى يسر وتحولت بهم الحال إلى أسعد حال من السلامة والنجاة من خلال معجزة ربانية أجراها الله جلت قدرته على يد نبيه وكليمه موسى عليه السلام ،وفي مثل هذه الساعة المكروبة الحرجة يقول سبحانه: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم (فما أن ضرب موسى البحر بعصاه حتى انفلق ،فكانت فيه جملة طرق يابسة مذللة للمسير ،وكانت المياه تجف بالطريق من كلا الجانبين وكأنها الأطواد أي الجبال ،ومفردها الطود وهو الجبل ،أي أن جبالا من المياه الراكمة المجتمعة تتماسك على دفتي كل طريق وذلك بقدر من الله وبإرادته التي تخرق كل قانون مقدور والتي لا تحجبها نواميس الحياة والطبيعة .
هكذا كان يشير بنو إسرائيل من خلف قائدهم موسى خلال هذه الطرق الممهدة في وسط البحر وهم ينظرون عن يمين وشمال فيبصرون أطوادا من جبال من الماء واقفة بإذن الله من غير أن تميل عليهم فتغرقهم إغراقا ،وهم وسط ذلك كله سائرون آمنون ،وفي ذلك كله قوله سبحانه: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يابسا لا تخاف دركا ولا تخشى (.
لقد ضرب الله بني إسرائيل في البحر طريقا سهلا ممهدا يبسا ،لكي يسلكوا فيه آمنين مطمئنين لا يدركهم فيه عدو لاحق ،ذلك هو قرار الله الفاصل وهو أن يكتب لبني إسرائيل النجاة من طغيان فرعون ،ولا جرم أن يكون هذا الحدث الهائل مكرمة ربانية فذة تضاف إلى المكارم التي امتن الله بها على اليهود في زمانهم الغابر ،وهي مكارم ما أوتيت أمة في العالمين مثلها ليكون ذلك مظهرا من مظاهر التفضيل الذي حظي به أولئك القوم .
وبعد أن سلك بنو إسرائيل طريق النجاة في البحر أمر فرعون جنوده في حماقة وتغرير أن يتبعوهم فهلك وهلكوا جميعا ،ثم قذفه البحر ميتا بلا حراك صوب الساحل فسقط بذلك شيطان أكبر من شياطين الإنس المجرمين العتاة في هذه الدنيا .
ومن لطيف ما يكتب عن هذه القضية أن يهود لمن يصدقوا خبر فرعون وانه أدركه الغرق في البحر ،حتى لفظ أنفاسه ما كان اليهود ليصدقوا ذلك الخبر وهم لفرط الهلع الذي استحوذ عليهم ولفظاعة الفرق المرجف الذي أطار قلوبهم جميعا ما كانوا يستطيعون التصديق بأن فرعون قد مات حتى رأوا رأي العين فتثبتوا واطمأنوا لصحة الخبر .
لقد سقط هذا الجبار المتمرد الذي ساس الناس بالباطل بعد أن أزهق نفوسا كثيرة بغير حق طيلة حقبة من الزمن ،إلى أن كانت النهاية البشعة وهو يلقى مصيره من التغريق فيطرحه البحر صاغرا خاسئا ليراه الناس جثة هامدة وتبصره الأجيال جيلا بعد آخر ،وهو قابع مسجى حتى أيامنا هذه ،وفي ذلك يقول القرآن في فرعون وهو يكشف عن ظاهرة من ظواهر إعجازه (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية (.