نعم الله على بني إسرائيل
{وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا ءال فرعون وأنتم تنظرون ( 50 ) وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون( 51 ) ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون( 52 ) وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون( 53 )}
/م50
المفردات:
الفرق: الفصل بين الشيئين .
البحر: هو بحر القلزم ( البحر الأحمر ) فرقه الله اثني عشر فرقة بعدد أسباط بني إسرائيل .
السبط: ولد الولد وهو من بني إسرائيل مثل القبائل لدى العرب .
التفسير:
{وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} .
واذكروا من نعمتنا عليكم نعمة فرق البحر بكم وانفصاله بعد اتصاله حين ضرب موسى بعصاه فجعلنا لكم فيه طرقا متعددة فولجتموها وسرتم فيها هربا من فرعون وجنده ،وبذلك تمت لكم النجاة وحصل الغرق لأعدائكم وقت أن عبروا وراءكم وقد شاهدتموهم والبحر يلفهم بأمواجه مشاهدة لا لبس فيها ولا غموض .ولقد كان فيما رأيتم ما يدعو إلى الاتعاظ ويحمل على الشكر وعرفان الفضل لله العلي الكبير .
وأسند سبحانه فرق البحر إلى ذاته الكريمة ليدل على أن القوم عبروه وقطعوه بعنايتهسبحانه .وقوله تعالى:{فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون} .بيان للمنة العظمى التي امتن بها عليهم والتي ترتبت على فرق البحر ،لأن فرق البحر لهم ترتب عليه أمران:
أولهما: نجاتهم .
ثانيهما: إهلاك عدوهم ،وكلاهما نعمة عظيمة .
وزعم بعض الناس أن عبور إسرائيل البحر كان وقت الجزر ،وفي بحر القلزم ( البحر الأحمر ) رقارق يتيسر للإنسان أن يعبر بها البحر إذا كان الجزر شديدا ،ولما أتبعهم فرعون وجنوده ورآهم عبروا البحر مشى في إثرهم وكان المد قد بدأ ولم يتم خروج بني إسرائيل إلا وقد علا المد وطغى حتى أغرق فرعون وجميع من معه ،وتحققت نعمة الله على بني إسرائيل ،وتم لهم التوفيق ولعدوهم الخذلان .
والأمر كما ترى معجزة إلهية ،ومنة من الله على بني إسرائيل بالعديد من النعم ،ويبعد أن يكون حادثة طبيعية منشؤها المد والجزر ،وخاصة أن الآيات تفيد غرق فرعون وجميع من معه ،ولو كان حادثة طبيعية لفر من الغرق كثير من أتباع فرعون قبل تمام المد لأن مد البحر وجزره يتم تدريجيا .
وقال تعالى:{فأغرقناه ومن معه جميعا} .( الإسراء103 )
وقال سبحانه:{فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم} ( الذاريات 208 )
وقد صرحت آيات أخرى بأن فرق البحر كان بسبب ضرب موسى له بالعصا .
قال تعالى:{فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون( 61 ) قال كلا إن معي ربي سيهدين( 62 ) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ( 63 ) وأزلفنا ثم الآخرين( 64 ) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ( 65 ) ثم أغرقنا الآخرين} .( الشعراء 61-66 )
وقد ألحق المفسرون كثيرا من الإسرائيليات بتفسير هذه الآية ،والقرآن الكريم غني عن هذه الإسرائيليات التي لا تنهض على دليل من العقل أو سند من النقل .
والإسرائيليات عموما تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما كان موافقا لما في القرآن والسنة الصحيحة فنقبله .
الثاني: ما كان مخالفا لما جاء في القرآن والسنة الصحيحة فنرفضه .
الثالث: ما جاء بأمر جديد ليس معنا دليل على صدقه أو كذبه فنتوقف في قبوله .
وقد فسر القرطبي هذه الآية ثم كتب عدة ملحقات بها منها ما يأتي:
القول في اختلاف العلماء في كيفية إنجاء بني إسرائيل:
( فذكر الطبري أن موسىعليه السلامأوحى إليه أن يسرى من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط ،وأحل الله ذلك لبني إسرائيل فسرى بهم موسى من أول الليل فعلم فرعون فقال لا يتبعهم أحد حتى يصيح الديكة فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك ،وأمات الله تلك الليلة كثيرا من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الإتباع مشرقين كما قال الله تعالى: فأتبعوهم مشرقين . ( الشعراء 60 ) .
وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه ،وكانت عدة بني إسرائيل نيفا على ستمائة ألف وكانت عدة فرعون ألف ألف ومائتي ألف ،وقيل إن فرعون اتبعه ألف ألف حصان سوى الإناث ،وقيل دخل إسرائيل ،وهو يعقوب عليه السلام مصر في ستة وسبعين نفسا من ولده إلى ولد ولده ،فأنمى الله عددهم وبارك في ذريته حتى خرجوا إلى البحر يوم فرعون وهم ستمائة ألف من المقاتلة سوى الشيخ والذرية والنساء ،وذكر أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة قال: حدثنا شبابة بن سوار عن يونس بن أبي إسحاق عن عمروا بن ميمون عن عبد الله بن مسعود أن موسىعليه السلام حينما أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون فأمر بشاة فذبحت ،ثم قال: لا والله لا يفرغ من سلخها حتى تجتمع علي ستمائة ألف من القبط .قال: فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر فقال له: أفرق .فقال له البحر: لقد استكبرت ياموسى .. وهل فرقت لأحد من ولد آدم فأفرق لك ..فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر .فضربه موسى بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم .( الشعراء 63 ) .فكان فيه اثنا عشر فرقا لاثنى عشر سبطا لكل سبط طريق .
فلما خرج أصحاب موسى وقام أصحاب فرعون التطم البحر عليهم فأغرقهم ،ويذكر أن البحر هو بحر القلزم .
وأن الله تعالى أوحى إلى البحر أن انفرق لموسى إذا ضربك فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب موسى البحر وكناه أبا خالد ( 139 ) ذكره ابن أبي شيبة ،أيضا ،وقد أكثر المفسرون من القصص في هذا المعنى وما ذكرناه كاف ( 140 ) .
( فصل ) ذكر الله تعالى الإنجاء والإغراق ،ولم يذكر اليوم الذي كان فيه فروى مسلم عن ابن عباس أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء ،فقال لهم رسول اللهصلى الله عليه وسلم: ( ماهذا اليوم الذي تصومونه ) فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى ،وأغرق فرعون وقومه ،فصامه موسى شكرا ،فنحن نصومه ،فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: ( فنحن أحق وأولى بموسى منكم ) .فصامه رسول اللهصلى الله عليه وسلم،وأمر بصيامه .وأخرجه البخاري أيضا عن ابن عباس ،وأنالنبي صلى الله عليه وسلمقال لأصحابه: ( أنتم أحق بموسى منهم فصوموا )( 141 ) .
( فضيلة ) روى أبو قتادة أن النبيصلى الله عليه وسلمقال: ( صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ) .أخرجه مسلم والترمذي ،وقال: لا نعلم في شيء من الروايات أنه قال ( صيام يوم عاشوراء كفارة سنة ) إلا في حديت أبى قتادة ( 142 ) .
وقوله تعالى: وأنتم تنظرون جملة في موضع الحال ومعناه بإبصاركم فيقال إن آل فرعون طفوا على الماء فنظروا إليهم يغرقون وإلى أنفسهم ينجون ففي هذا أعظم المنة .
قال الفخر الرازي:
اعلم أن واقعة فلق البحر تضمنت نعما كثيرة على بني إسرائيل في الدين والدنيا ،أما نعم الدنيا فمن وجوه:
أولها: أنهم لما اقتربوا من البحر أصبحوا في موقف حرج لأن فرعون وجنوده من ورائهم والبحر من أمامهم ،فإن هم توقفوا أدركهم عدوهم وأهلكهم وإن هم تقدموا أغرقوا فحصل لهم خوف عظيم جاءهم بعده الفرج بانفلاق البحر وهلاك عدوهم .
ثانيها: أن الله تعالى خصهم بهذه النعمة العظيمة والمعجزة الباهرة تكريما ورعاية لهم .
ثالثها: أنهم بإغراق فرعون وآله تخلصوا من العذاب وتم لهم الأمن والاطمئنان وذلك نعمة عظمى لأنهم لو نجوا دون هلاك فرعون لبقي خوفهم على حاله ،فقد يعود لتعذيبهم مستقبلا لأنهم لا يأمنون شره ،فلما تم الغرق تم الأمان والاطمئنان لبني إسرائيل .
وأما نعم الدين فمن وجوه:
أولها: أن قوم موسى لما شاهدوا تلك المعجزة الباهرة زالت عن قلوبهم الشكوك والشبهات لأن دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصانع الحكيم وعلى صدق موسى تقترب من العلم الضروري .
ثانيها: أنهم لما شاهدوا ذلك صار داعيا لهم على الثبات والانقياد لأوامر نبيهم .
ثالثها: أنهم عرفوا أن الأمور كلها بيد الله ،فإنه لا عز في الدنيا أكمل ممن كان لفرعون ،ولا ذل أشد مما كان لنبي إسرائيل ،ثم إن الله تعالى في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلا ،والذليل عزيزا والقوي ضعيفا والضعيف قويا ،وذلك يوجب انقطاع القلب عن علائق الدنيا ،ولإقبال كلية على اتباع أوامر الخالق عز وجل .