قوله تعالى:{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 46 ) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} تجادلوا: من الجدل ،والجدال بمعنى الخصومة{[3573]} وهذا أمر من الله لعباده المؤمنين بمجادلة أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى{بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي باللين والملاطفة وبالجميل من القول .وهو الدعاء إلى دين الإسلام بإظهار آياته وحججه والتنبيه على جماله وكماله وصلوحه للبشرية .وهذه هي سبيل المسلمين وطريقتهم في دعوة الناس إلى دين الله ؛وذلك بحسن الحديث وجميل الخطاب ،وبالمودة والرفق ،في غير ما غلطة ولا فظاظة ولا مخاشنة .
هذا سبيل المسلمين ؛إذ يدعون الناس إلى منهج الإسلام يدعونهم بالحجة الظاهرة والمنطق والود ويظهرون لهم حقيقة الإسلام وما بني عليه من سماحة العقيدة وإشراقها وموافقتها للفطرة الإنسانية ،وما تضمنه من قواعد وأركان تتفق وطبيعة الإنسان وتنسجم مع مكوناته النفسية والروحية والعقلية والبدنية ،وتدعو في جملتها إلى الرحمة والخير والعدل والمساواة بين بني البشر .
قوله:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} المراد بالذين ظلموا: الذين نصبوا للمسلمين الحرب وجاهروا بالعداوة والتصدي لمنهج الله بالعدوان والمكايدة ،وأبوا إلا أن يتمالئوا على الإسلام بالتشويه والتشكيك والتنفير والافتراء ،وعلى المسلمين بالعدوان ليقتلوهم أو يستذلوهم ويضعفوهم .وهؤلاء ظالمون معتدون ،فما ينبغي للمسلمين أن يعاملوه بالحسنى ،أو يركنوا إلى مجادلتهم بالرفق ؛إذ لا يجدي معهم غير سبيل القوة والتخويف دفعا لأذاهم وشرورهم عن الإسلام والمسلمين .
قوله:{وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} يأمر الله المؤمنين –إذ حدثهم أهل الكتاب عما حوته كتبهم مما يمكن أن يكونوا فيه صادقين أو يكونوا فيه كاذبين- أن يقولوا لهم:{آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي صدقنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم في التوراة والإنجيل ،ومعبودنا ومعبودكم واحد لا شريك له ،ونحن له مستسلمون مذعنون بالطاعة والخضوع .
وبذلك إذا أُخبر المسلمون بما لا علم لهم به من التوراة والإنجيل مما لا يحتمل الحق والصدق أو التحريف والباطل فإنهم لا يبادرون إلى تصديقه أو تكذيبه ؛لأنه قد يكون حقا وقد يكون باطلا ،بل إنهم يعلنون عن إيمانهم بهما إيمانا مجملا معلقا على شرط وهو كونه منزل من عند الله ،غير مبدَّل ولا محرَّف .وفي هذا روى البخاري عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ،وقولوا:{آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} .