منهجية الجدل في الإسلام
للفكر في الإسلام قيمته ،وللعقل احترامه في مجالات العقيدة والحياة ،وللآخرين حقّهم في أن يسمعوا وجهة نظر الرأي المخالف ،كما أن من حقنا أن نسمع منهم وجهة نظرهم ،ليكون الحوار العقلاني الهادىء القائم على النظرة الموضوعية للمضمون الفكري الذي تمثله العقيدة ،في ما يسمعه أو يتحدث به ،وقد أراد الله للمسلمين أن يكون سبيلهم في صراعهم العقيدي مع أهل الكتاب ،سبيل الحوار الذي يبحث في البداية عن مواطن اللقاء معهم ،ليبدأوا بعد ذلك الحديث في الخلافات ،من هذا الموقع ،بروحية الوحدة ،والرغبة في اللقاء على أرضٍ مشتركة في نهاية المطاف .
المجادلة بالتي هي أحسن
{وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بالكلمة الحلوة الهادئة المعبّرة الواضحة ،والأسلوب الحكيم الذي يرصد المشاعر والأحاسيس ليحترمها ،ويدرس الذهنية لدى الطرف الآخر للحوار ليتعامل معها من خلال نقاط الضعف والقوّة ،والجوّ الملائم الذي يدرس الظروف المحيطة بالمسألة ،ليحشد فيه كل ما يمكن أن يثير التفكير ،ويُبعد الانفعال ،ويقرّب من الاقتناع الهادىء العميق ،لتكون المسألة مسألة فكرٍ يصارع فكراً في أجواء الرغبة في الوصول إلى الحقيقة التي تسمح بالتراجع عن الخطأ ،وتقود للانفتاح على الصواب ،بعيداً عن مسألة تأكيد الذات ،كما هو الحال عند مجتمعات التخلف التي تفهم الخلاف في الرأي ،قضية ذاتٍ تصارع ذاتاً ،مما يجعل الانفعال هو طابع الحوار .
فهذا هو الأسلوب الأحسن الذي يقود الآخرين إلى احترام فكر الإسلام ،ويقرّبهم من أجواء الوصول إلى النتائج الإيجابية السليمة ،ويحوّل الأعداء إلى أصدقاء ،أمَّا الأسلوب الذي هو الأسوأ ،فإن الإسلام يرفضه مع كل الناس ،لأنه يعقّد الأمور بدلاً من أن يحلّ مشاكلها ،وذلك مثل السباب والاتهامات الظالمة ،والافتراءات الباطلة ،والكلمات الخشنة ،والأساليب المتشنجة ،والأجواء الانفعالية ،والتأكيد على مواطن الخلاف بدلاً من مواطن اللقاء ،وغير ذلك ،ما يثير التعقيد والتشنج والارتباك على أكثر من صعيد ،ويحوّل الساحة إلى ساحة قتال بدلاً من ساحة سلام .ولكن الحوار الهادىء ،والجدال بالتي هي أحسن ،هو للذين يريدون الحوار ويتفهمونه دون الذين يريدون أن يفرضوا إرادتهم على الناس بالقوّة ويمنعوهم من التحرك بحرّيةٍ في إبداء وجهة نظرهم في مجالات الفكر .فهؤلاء لا بد من التعامل معهم بطريقتهم إذا لم يرجعوا إلى الأسلوب الفكري الذي يريد أن يصل إلى نتيجة فكرية من خلال الحوار ،وهؤلاء هم الذين استثناهم الله بقوله:{إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} ،فقد يكون من الأفضل استعمال أسلوب المواجهة معهم ،بالقوّة التي تواجه قوّةً ،وبالعنف الذي يضغط على العنف .
البحث عن النقاط المشتركة في الحوار
فإذا عادوا إلى الحوار ،خاطبناهم بالطريقة التي هي أحسن التي تبحث عن الأرض العقيدية المشتركة بيننا وبينهم ،كما قال الله سبحانه:{وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} فنحن نؤمن بالتوراة والإنجيل كما نؤمن بالقرآن ،على أنها الكتب المنزلة من الله ،في ما تمثله من الحقيقة في وحي الله ،{وَإِلهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِد} فنحن وإياكم نؤمن بالوحدانية لله ،مهما اختلفنا في تفاصيل طبيعة الإِله ،{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} بأفكارنا وقلوبنا وحياتنا .فتعالوا نبحث كيف يكون الإسلام لله ،باتباع نهجه في العقيدة والشريعة وإطاعة أوامره ونهيه ،لنكشف من خلال الحوار الموضوعي الهادىء ،هل أن اليهودية أو النصرانية تمثلان الخط الذي يمتد بامتداد الحياة ،أو أنه يقف عند مرحلةٍ معينةٍ من الزمن ،ليفسح المجال للدين الآخر الذي يستجيب للمتطلبات الجديدة للإنسان .وهكذا يكون الحوار أساساً لمواجهة القضايا الخلافية بروح اللقاء حول القضايا الوفاقية ،باعتبار أنه يؤكد روحية الوصول إلى الحقيقة من دون تعقيد ،فلا يبقى للتعصب المنطلق من أنانية الفكر الذاتي ،مجالٌ في الساحة .