ولما بين تعالى طريقة إرشاد المشركين ،ونفع من انتفع ،وحصول اليأس ممن امتنع ،بين طريقة إرشاد أهل الكتاب بقوله:{ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي بالخصلة التي هي أحسن .وهي اللين والأناة{ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أي بالاعتداء ،بأن أفحشوا في المقال وأقذعوا في الجدال ،فلا حرج في مقابلتهم بالعنف ،لتنكبهم عن جادة اللطف .وهذا كما قال تعالى{[6048]}:{ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} وهذه الآية أصل في آداب المناظرة والجدل{ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي مطيعون له خاصة .وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله .
قال ابن كثير:يعني إذا أخبروا بما لا يعلم صدقه ولا كذبه ،فهذا لا يقدم على تكذيبه ،لأنه قد يكون حقا .ولا على تصديقه ،فلعله أن يكون باطلا .ولكن يؤمن به إيمانا مجملا معلقا على شرط .وهو أن يكون منزلا ،ولا مبدلا مؤولا .وروى البخاري{[6049]} عن أبي هريرة قال:( كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم .وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) .وهذا الحديث تفرد به البخاري .
وروى الإمام أحمد{[6050]} عن أبي نملة الأنصاري مرفوعا:( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم .وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله .فإن كان حقا لم تكذبوهم ،وإن كان باطلا لم تصدقوهم ) .ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان .لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل .وما أقل الصدق فيه .ثم ما أقل فائدة كثير منه ،لو كان صحيحا .
روى البخاري{[6051]} عن ابن عباس قال:( كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء ،وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث .تقرؤونه محضا لم يشب .وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا ،وكتبوا بأيديهم الكتاب ،وقالوا:هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا .ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ؟ لا ،والله ! ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم ) .
وقال البخاري{[6052]}:وقال أبو اليمان:أخبرنا شعيب عن الزهري .أخبرني حميد بن عبد الرحمن ( أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة .وذكر كعب الأحبار فقال:إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب .وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه بالكذب ) .معناه أنه يقع منه الكذب من غير قصد .لأنه يحدث عن صحف هو يحسن بها الظن .وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة .لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة .ومع ذلك ،وقرب العهد ،وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة ،لا يعلمها إلا الله عز وجل ،ومن منحه الله علما بذلك .كل بحسبه .ولله الحمد والمنة .انتهى .