الأمر بتلاوة الوحي وإقامة الصلاة
للنبي دوره في الحياة ،ولأتباعه الخط الذي يمثله هذا الدور ،فهناك دعوةٌ وتلاوةٌ ،وهناك عبادةٌ وصلاةٌ ،هناك مهمّةٌ تربويةٌ للصلاة وهناك رقابةٌ إلهية دائمةٌ ،وهذا ما تعالجه هذه الآية .
أتل ما أوحي إليك
{اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} فقد أوحى به الله إليك لتقرأه على الناس ليستمعوا إليه وليتفهموه ويعملوا بتعاليمه ،ولتعرّفهم طريقة فهمه وخطة العمل به .فليست التلاوة النبوية للكتاب مجرد قراءة تطرق حروفها وكلماتها الأسماع ،ثم ينتهي كل شيء ،بل هي قراءة تركز الفكرة ،وتبلور العقيدة ،وتتحرك في اتجاه العمل .ولهذا فإن القضية تحتاج إلى ملاحقةٍ للناس في ما قرأه عليهم ،وتدقيقٍ في ما أخذوا به منه . ً
وإذا كان النبي مسؤولاً عن تلاوة وحي الكتاب على الناس ،فإن الدعاة من بعده مسؤولون عن ذلك ،لأن قضية الدعوة مسؤولية النبي والمسلمين معه ،ومن بعده ،لأن الإسلام لا يمتد إلا بهذه الروح ،ولا ينمو إلا بهذه الطريقة .
وأقم الصلاة
{وَأَقِمِ الصلاةَ} التي تعيش في داخلها الحضور الإلهيّ في نفسك وفي حياتك ،فتزداد ارتباطاً به ،وإحساساً بوجوده ،وخشوعاً له ،وإطاعةً لأوامره ونواهيه ،لأن مشكلة الكثيرين من الناس الذين يؤمنون بالله ،أنهم لا يحسون بحضوره في حياتهم ،بل يفكرون به كأيّة معادلةٍ عقليةٍ تعيش في أفكارهم ،كحالةٍ ذهنية مجردةٍ ،لا كإحساس شعوري نابض بالحياة ،ولهذا يغيبون عن ذكره ،ويغيب في وجدانهم عن عمق الوعي في شخصيتهم ،فلا يترك الإيمان في داخلهم أيّ أثر ،ولا يثير فيهم أيّ شعور حيّ .وهنا يأتي دور الصلاة ،في وقفة الإنسان المتكررة اليومية بين يدي الله ،وذكره له وحديثه معه ،وركوعه وسجوده بين يديه ،وخشوعه في سُبحات الدعاء أمامه ،ما يجعله يشعر به كما لو كان معه ،في ما يشبه إحساس النبي محمد( ص ) في ليلة الهجرة بأن الله معه ،{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [ التوبة40] ما جعله يشعر بالأمن والسكينة والاطمئنان ،كما لو كان الله وجوداً قويّاً حسياً معه .
وإذا كان للصلاة هذا الدور الكبير في الشعور بحضور الله في وعي الإنسان ،فإن من الطبيعي أن يكون لها الدور العظيم في صنع الشخصية الرافضة للفحشاء والمنكر{إِنَّ الصّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ} ،في ما يثيره حضور الله في نفس المؤمن من الشعور برقابته القوية عليه وعلى كل خفاياه ،لتتولد في داخله القوّة الخفية الروحية الناهية عن كل ما يتجاوز حدود الله ،وعن كل ما ينكره الله ولا يرضاه .وبذلك كانت الصلاة ،في عمقها التشريعي ،عملاً تربوياً عبادياً يعمل على صنع الشخصية الرافضة لكل معاصي الله ،بحيث يكون الحدّ الفاصل بين الصلاة المقبولة والصلاة غير المقبولة ،النتائج العملية التي تترتب عليها من حيث تحقيق النهي عن الفحشاء والمنكر في شخصية الإنسان ،وعدم تحقيق ذلك لديه .وقد ورد في الحديث النبوي الشريف: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً »[ 1] .
وليس معنى نهي الصلاة للمصلي عن الفحشاء والمنكر ،أنها تُحدث ذلك الأثر بشكلٍ فعليٍ حاسمٍ ،ليتساءل متسائل: كيف يصدق هذا في الوقت الذي نرى فيه الكثيرين من المصلين الذين يمارسون الفحشاء ويرتكبون المنكر ؟! بل إن المعنى الصحيح لذلك هو اقتضاء الصلاة لذلك بحسب طبيعتها العبادية ،وإيحاءاتها الروحية ،ومفاهيمها العملية ،بحيث لو عاش المصلي ذلك كله بوعي وتوجّهٍ قلبيٍّ ،وخشوعٍ روحيٍ وجسديٍ ،لحصل على ذلك .
ولذكر الله أكبر
{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} من ذلك ،فإن ما يترتب على الصلاة من تعميق ذكر الله في نفس المؤمن المصلّي أكبر من النهي عن الفحشاء والمنكر الذي يتحقق من خلالها ،لأنه هو الذي يحرّك في روحه عوامل الخير وإيحاءاته ،ويثير فيه الوعي للموقع الذي ينفتح فيه على ربّه ،ويحوّله إلى إنسان يرصد كل ما يحبه الله ويرضاه ليفعله ،وكل ما يبغضه الله ويسخطه ليتركه .
وربما فُسِّر ذلك بأن الذي تشتمل عليه الصلاة أكبر في تأثيره في النفس من ذلك الأثر ،لأنه هو الذي يوحي به وبغيره من نتائج الخير .
ولعل المراد من ذلك ،أن علاقة الإنسان بالله التي يمثلها ذكر الله ،في حضوره في نفسه وفي لسانه وحياته ،الذي يقف به عند حدود ما أحله الله وحرّمه في ما يختفي وراء رفضه للفحشاء والمنكر ،وما يوحي به من محبةٍ لله وخوفٍ منه ،هي أعظم من كل شيء ،وأكبر من كل عمل .لأن كل الأمور تلتقي عند الله ،فهو الغاية في كل عملٍ وكل علاقةٍ وغاية .فقد جاء الإسلام ليفتح قلب الإنسان على الله ،لتكون الحياة كلها والدين كله لله ،على غرار قوله تعالى في آية أخرى:{وَرِضْوَنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [ التوبة:72] فإن النتائج المباشرة في القضايا الروحية العبادية لا تمثل شيئاً أمام النتيجة العميقة غير المباشرة ،وهي علاقته بالله ،وحضوره في نفسه .{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} من أعمالكم الخيّرة والشريرة ،فعليكم أن تراقبوا أنفسكم لتعرفوا المعنى الكامن في الصلاة ،وفي الدين كله ،وفي علاقة الإنسان بالله ،لتكونوا أكثر وعياً للهدف عند إقامة الصلاة ،فلا تكون إقامتها جهداً ضائعاً وعبئاً لا معنى له ،كما ورد في حديث عن الإمام علي( ع ): «كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ ،وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء ،حبذا نوم الأكياس وإفطارهم »